تستهلّ السورة بوصف القرآن بأنه الفرقان، أي النور الذي يفرق بين الحق والباطل، أي به يتباين الحق والباطل، وتتمايز الظلمات والنور.
ومن نزل عليه هذا الفرقان لا يفتر أو يتوانى في أن يحمل هذا النور وينشره في أرجاء الدنيا لكل العالمين، فالوحي الذي نزل على النبي الخاتم وهو محمد – صلى الله عليه وسلم – هو آخر عهد اتصال الأرض بالسماء، فلا نبيّ بعده، ولا وحي بعده، لذا كان جليّا أن تؤكد الأيات في مطلع السورة على عالمية الدعوة وصلاحها لكل زمان ومكان، قال تعالى:" تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا".
والمتأمل في سورة الفرقان يجد وكأنها حوار طويل بين الدعاة والمعرضين عن دعوتهم، وهي درس للدعاة أن يكون بيانهم مقنعاً، وتكون حجتهم دامغة، ليتحقق اسم السورة في واقعهم فتكون دعوتهم فرقانا للناس أجمعين، ولا عجب إذ السورة تؤكد على هذا المعنى في قوله تعالى:" فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا".
ويعيب النبي على قومه أن يتخذوا هذا القرآن مهجورا، فأولى بهم أن يتبعوا هذا الفرقان ويتخذوه دستورا ومنهج حياة:" وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا".
لقدعرضت السورة في ثناياها الحجج الواهية التي ساقها المشركون ليبرّروا كفرهم وشركهم، وأوضحت الردود عليها، وتستخدم السورة كلمة " وقال الذين كفروا.." أو " وقالوا.." حين تذكر حجج الكافرين المجادلين.
ولعلنا نقف مع هذه الحجج، وكيف ردت السورة عليها؟
وأول هذه الحجج، الادعاء بأن القرآن ليس من عند الله وأنه مفترى من عند محمد:" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا".
وجاء الرد عليها بما يؤكد علويّة الخطاب القرآني في أول آية في السورة:" تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ".
ومن هذه الحجج، الادعاء أيضا ان هذا القرآن من أساطير الأولين:" وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا".
وجاء الرد عليها في الآية بعدها مباشرة:" قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا".
وكم هو جميل قوله تعالى " يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" وكأن الله يبين لهم أنه يعلم سرهم وخبايا نفوسهم في دعواهم الباطلة هذه، كما أن تذليل الأية " إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا" دعوة رحيمة من الله لهم أن يتوبوا ويعودوا عن غيّهم وكذبهم.
ومن هذه الحجج، الاعتراض على بشريّة الرسول، إنهم يريدون الرسول مَلَكا ينزل عليهم من السماء:" وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا" وأي منطق أن يكون الرسول من غير جنسهم وعلى غير طبيعتهم بل إن هذا أدعى إلى عدم الاستجابة له، والإيمان بدعوته؟
بل ويؤكد الله بشرية من سبق من الرسل، وأن محمدا ليس بدعة منهم:" وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ".
ويستمر المشركون في حججهم، فيطلبون من النبي الخوارق والعجائب، كأن يُخرج لهم كنوز الأرض، أو يحيل صحراءهم جناتٍ وأنهارا:" أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا".
وتأمل كيف كان الرد سريعا ومختصرا:" انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا" وكأن الأية تقول: إن من يطلب مثل هذه الخوارق لا يطلب الإيمان ولا يقصد الاهتداء إلى الحق فلا فائدة من مجاراتهم فيما يطلبون، وقد شاء الله تعالى أن تكون معجزة محمد الخالدة معجزة عقلية (وهي القرآن) ليكون إيمان من يؤمن عن قناعة ويقين، وليس ردود فعل لمعجزة حسية عابرة.
وانظر كيف يواسي ربنا تبارك وتعالى نبيه – صلى الله عليه وسلم – بأن يعده أن يجعل له القصور والجنّات في الآخرة لا في الدنيا:" تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا " وهي تسلية لكل الدعاة أن يمدّوا أبصارهم إلى الدار الأخرة وما أعد الله فيها من الثواب والنعيم ولا تغرنّهم الحياة الدنيا.
ثم تبلغ الجرأة والوقاحة بهؤلاء الكافرين أن يطلبوا رؤية الله وملائكته عياناً كي يؤمنوا:" وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا " وقد جاء الرد عليهم في الأية نفسها أنهم ما تجرأوا على طلبهم هذا إلا لأنهم لا يرجون لقاء الله وأن نفوسهم امتلأت كبرا حتى وصلوا إلى هذا السفه في قولهم وعقولهم.
وانظر تهديد الله لهم بأن رؤيتهم لملائكته ستكون حين ينزل بهم العذاب أو حين يبعثون يوم القيامة، حينها تتشقق السماء وتنزل عليهم الملائكة، وعندها يعلمون أن الملك لله، ويعضّون على أيديهم ندما وحسرة:" وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا * وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا".
وتأتي آخر هذه الحجج في السورة، وهى طلبهم أن يُنزّل القرآن جملة واحدة، ولا تدري ما علاقة ذلك بالإيمان، أو التصديق والتكذيب، إنما هي أعذار واهية وحجج سخيفة.
قال تعالى:" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا " وكذلك يكون الرد عليهم في الآية نفسها، أي إنما أنزلناه مفرّقا ليكون تثبيتا لقلب النبي، وليقدّم حلاّ لكل ما يستجد من أحداث، فيصبح القرآن بعد اكتمال نزوله شاملا لكل مثل، حاويا لكل حكمة وعبرة.
وتبين السورة أن هؤلاء الأشقياء ما جادلوا بهذا الباطل، وما قدموا هذه الحجج إلا لأنهم لا يريدون الإيمان، فهم كذّبوا بالله ولقائه، وسيلقون مصيرهم المخزي والمحتوم:" بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا".
وحينها يكون مصيرهم الهلاك والثبور:" لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا".
وتسلك السورة مسلكا آخر في خطاب هؤلاء المعرضين، ألا وهو الاستدلال بكل ما هو دليل عقلي أو منطقي فتعرض مشاهد من قدرة الله وآياته المبثوثة في الكون، من آية الظل:" أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا".
وأية الليل والنهار:" وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا".
وأية الرياح والمطر:" هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا".
وآية مرْج البحرين:" وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا".
وآية خلق الناس من ماء فإذا هم أممٌ تتعارف وتتصاهر:" وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا".
وآية خلق السماء والبروج التي تزيّـنها:" تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا".
فإن لم تكن هذه الآيات كافية لتتدبروها وتهديكم إلى الإيمان بالله الخالق، فليس لكم فرصة إلا أن ينزل بكم العذاب كما نزل بالذين من قبلكم، ولن يكون منه بدّ بعد هذا البيان بالحجة والبرهان.
" وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا * وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا".
وإن الله لا يعبأ بعذابكم، ولا يأبه لهلاككم:" قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا".
وأما ختام السورة، فهو يتحدث عن صفات عباد الرحمن الذين آمنوا بهذا الفرقان، واهتدوا بنوره في هذه الحياة، فكانت هذه صفاتهم وأخلاقهم:
• هم متواضعون وليس في سلوكهم كبر أو تعالي على الناس، وعلامة ذلك أنهم يمشون على الأرض بسكينة ووقار من غير تباطؤ ولا هوان:" وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا".
• وهم يجادلون الناس بالحسنى من القول، ويترفعون عن مجاراة الجاهلين، فغايتهم بيان الحق لا تجريح الناس:" وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا".
هذا حالهم في النهار مع الناس، وأما حالهم مع ربهم في الليل:
• فهم يقومون الليل في صلاة ومناجاة، لأنهم يهتمون بصلاح بواطنهم كما يهتمون بصلاح ظواهرهم:" وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا".
• ويتضرعون إلى ربهم بالدعاء، أن يصرف عنهم عذاب جهنم، ليكونوا من الفائزين:" وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا".
ولما وصفوا جهنم بأن عذابها كان غراما أي ملازما لأهلها وأنها بئس المقام جاءتهم البشارة من ربهم بالجنة التي هي خيرٌ مقاما والتي هي دائمٌ نعيمها كما في آخر السورة:" أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا".
• وأما صفاتهم السلوكية، فالإيمان عندهم أخلاق وعمل، لا يقصدون غير الله في أمر دينهم ودنياهم، ولا يعتدون على غيرهم بأذى أو قتل، ولا يهتكون الأعراض:" وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا".
• وهم أولي بصيرة تنفعهم الذكرى، ويزداد الإيمان في نفوسهم كلما سمعوا آيات الله تُـتلى عليهم:" وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا".
• ويرجون أن يكونوا أهلا لحمل أمانة هذا الدين، بل ويورّثون هذه المسئولية لأبنائهم وذرياتهم، ويسألون الله أن يكونوا أئمة ً في الهدى والصلاح:" وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا".
وتأمل كيف انسجمت بداية السورة مع خاتمتها، فذكرت السورة في أولها نزول القرآن، وحذّرت في وسطها من هجره قولا وعملا، وجاء آخرها ليصف صفات عباد الرحمن والذين هم جيل الفرقان الذين سيكون عليهم بلاغ هذا القرآن لكل العالمين. هذا والله أعلم