منذ أن تبدأ في قراءة سورة مريم، تطالعك كلمة "رحمةُ ربّـك" في أوّل مطلعها، لتشعرك بظلال الرحمة الوارفة التي تمتد عبر سياق السورة، ففي أول آياتها يقول تعالى: "ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا" وتأمل كلمة "عبده زكريا" ولم يقل "نبيّه زكريا" لأنّ المقام هنا مقام تذلّل وعبودية وليس مقام نبوّة وتشريف، بل إنه لا يبلغ مقام التشريف إلا من بلغ أوّلاً مقام العبودية لله.
إنه مقام المناجاة بين زكريّا عليه السلام وربّه تبارك وتعالى "إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا" فما من حاجة لتصرخ وترفع صوتك كي يسمعك ربّك، إنما هي همسة خافتة من قلب صادق، يسمعها الربّ تبارك وتعالى فيفتح لها أبواب السماء، فالنداء هنا نداء قلوب لا نداء أفواه.
هاهو زكريا عليه السلام يقف بين يدي ربّه في محراب الدعاء قائما متذللا يبسط بين يديه ضف حاله ومصير مآله، يدعوه ويرجوه أن يهب له غلاماً من صلبه، وما من أحد إلا وتلك أمنيته في هذه الحياة أن يكون له ولد يحمل اسمه ويخلّد ذكره ويرث مجده، غير أن زكريا – عليه السلام – لم يسأل ربه الولد لذلك إنما أراده ليحمل أمانة الدين وهمّ الدعوة ليبلّغها من بعده: "قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا".
ومع ضعف الأسباب المهيئة لقدوم الولد، فزكريّا عليه السلام قد بلغ المشيب وامرأته عاقر، تأتي الرحمة بالبشرى من الله بالولد، بل ويسميه الله في الملأ الأعلى بيحيى: "يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ".
ويأتي الاستغراب والاستنكار من زكريّا رغم أنّ هذا كان طلبه لكنّ لحظة المعاينة للحدث العجيب تكون دائما أبلغ وأوقع في النفس: "قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ".
ثم تأتي القاعدة الذهبية في تقرير الإرادة الالهية المطلقة التي تتجاوز الأسباب، لأنها من رب وخالق الأسباب: "قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ".
ولم تقف الرحمة الى هذا الحدّ بل تأتي البشرى بأن سيكون هذا الولد نبيّا وأي عطاء أعظم من عطاء النبوّة: "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا" ثم تتوالى البشريات بأن سيكون تقيا، بارّاً بوالديه وقرة عين ٍ لهما، متواضعاً صالحاً في الأرض: "وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا " والسلام يحفّه في حياته وإلى أن يموت " وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ".
ألا ما أعظم عطاء الله، حين يأتي متتابعاً، ليتنزّل بالخير والرحمة على أوليائه فتطمئن قلوبهم ويزداد يقينهم بموعود الله، ولقد كانت سورة مريم من السور المكية الأوائل التي نزلت على قلب نبيّنا محمد، وكأنّها تقول له، أنه كما رزق الله نبيّه وعبده زكريّا من يحمل دعوته وينصر دينه بعد انقطاع الأسباب، فإنه وإن اشتد اليأس وغاب الأمل وانعدمت الأسباب الظاهرة لنصرة دينك ودعوتك يا محمد فإن الله قادر أن يخرق لك الأسباب ويؤيّد دينك ويهلك عدوك، ولتكون هذه القاعدة الذهبية "هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ" نبراس يقين وشعلة أمل دوماً في طريق الدعاة.
ثم يتجلى مشهد آخر من الرحمة في هذه السورة ألا وهو مشهد ميلاد المسيح عيسى عليه السلام: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا".
وهذه معجزة أخرى وهي أبلغ من الأولى، فميلاد يحيى كان من أب عجوز وامرأة عقيم، أما ميلاد عيسى فكان من أمّ بلا أب، وتتكرر القاعدة الذهبية مرة أخرى وبذات الألفاظ حين استنكرت مريم عليها السلام أن يكون لها ولد من غير زوج: "قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ".
ومرة أخرى يأتي ذكر الرحمة في السياق "وَرَحْمَةً مِنَّا" وأيّ رحمة وكرامة أعظم من أن يكون مولودك نبيّاً، وأي رحمة من الله بخلقه أعظم من أن يبعث فيهم نبيّا لينقذهم من الضلالة الى الهداية ومن الظلمات الى النور.
وفي أثناء مشهد الولادة وبعد الوضع، تتنزّل الرحمة على مريم من الله تعالى، إذ يُخرج لها نخلة تتساقط عليها بالرطب، ويجعل من تحتها نهرا تشرب منه ماء عذبا صافيا لعل ذلك يذهب روعها ويزيل تعبها ويقوّي جسدها ويريح قلبها: "فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا".
إنه تعهّد إلهي من الله برعاية مريم ظاهرا وباطنا، فبعد أن رعى لها حملها في بطنها وجعل وليدها نبيا، رعاها بعد ولادتها بالطعام والشراب، وتأمل قوله تعالى "وقرّي عينا" وكم تسكب هذه الكلمة من الطمأنينة والرحمة في قلب مريم حين تكون من الله.
وفي مشهد المجادلة بين مريم وبني إسرائيل حين جاءتهم وهي تحمل ولدها، أتمّ الله عليها الرحمة والنعمة فأنطق لها وليدها ليقول كلمة الحق، فيبرىء ساحة أمه، ويعلي شرفها وعفتها: "قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ".
ثم يأتي التعقيب على كلام عيسى وأنه عبد الله لا ولده – تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا- فيقول تعالى:" ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ".
وتارة أخرى تتأكد القاعدة الربانية في خرق الأسباب بكلمة الله " كن فيكون " ليزداد المؤمن يقيناً وثباتا، فلا يركن إلى الأسباب بل يطلب العون والنصرة من خالق الأسباب وربّ الأرباب.
ولعل من اللافت في هذه السورة أن الله طلب من مريم عليها السلام وهي التي ما زالت ضعيفة واهنة، تعاني آلام الوضع، أن تهزّ بجذع النخلة لينزل عليها الرطب وهي لا تقوى على ذلك كونها امرأة ضعيفة، فكيف إذا كانت نفاسا؟ فهي مهما فعلت لن تقدر على هزّ النخلة، وما ذلك إلا لنعلم ضرورة الأخذ بالأسباب لتتحقق لنا النتائج، على الرغم من أن مشهد الولادة بكليّته يؤكّـد خرق الأسباب لا تحقيقها، فالله الذي جعل ميلاد عيسى معجزة قادر أن يسقط على مريم الرطب من غير جهد ولا تعب منها.
ولعلّ الرسالة التي توجهها الأيات أنّه عليك أيها العبد الأخذ بالأسباب في هذه الحياة واستنفاذها ما استطعت الى ذلك سبيلا، أما الرب تبارك وتعالى فهو القادر بعد ذلك أن يحقق لك النتائج بأسبابها أو بغياب أسبابها، فإنما أمره بين الكاف والنون.
هذا والله أعلم