الفلاح في سورة المؤمنون

الرئيسية » بأقلامكم » الفلاح في سورة المؤمنون
download

تقرر سورة المؤمنون وفي أول آية فيها أن الفلاح والفوز يكون لأولئك الذين يؤمنون بالحقائق الكبرى ويتخذونها أهدافا عظيمة، ويعيشون حياتهم من أجل تحقيقها، وليست حقيقة أكبر من حقيقة الإيمان بالله، حين يعيش المرء حياته من أجلها، ويستلهم التوفيق والنجاح وهو يترقّى في مراتبها.

" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ " تبدأ السورة بالحديث عن الفلاح الفردي، وترشد الآيات في مطلعها إلى سبل تحقيقه من خلال عبادات إيمانيّة روحانية وأخرى سلوكية وعملية، فأما العبادات الإيمانية الفردية فتبدأ بالصلاة والمحافظة عليها وأدائها بخشوع " الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ" وقوله أيضا "وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ".

وبين أداء الصلاة والدوام عليها محاولات متكررة لأجل بلوغ النفس مقام التزكية الذي هو أول صفات المفلحين، كما قال تعالى:" قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى" الأعلى (14-15).

وبعد الصلاة يأتي حفظ اللسان، الذي هو دليل استقامة القلب، ورزانة العقل "وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ" وكما قال – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي رواه أنس بن مالك:" لا يَسْتَقِيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يَسْتَقِيمَ قلبُهُ، ولا يَسْتَقِيمُ قلبُهُ حتى يَسْتَقِيمَ لسانُهُ". (المحدث: الألباني | المصدر: صحيح الترغيب).

ثم تأتي بعد ذلك العبادات العملية والسلوكية كإخراج الزكاة التي هي مطهرة من الشح والبخل، وإحسان للفقير والمسكين:" وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ".

ثم حفظ النسب وعدم الاعتداء على الأعراض " وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ إيمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ".

وأخيرا حفظ الأمانات والعهود:" وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ".

وكأن الرسالة الأولى التي توصلها السورة أنه لا فلاح ونجاح في هذه الحياة إلا لمن حسن خلقه و أحسن إلى الناس، وكي ترغّب الآيات في ذلك جعلت جزاء من التزم بهذه الأخلاق والعبادات الفردوس الذي هو أعلى منازل الجنة:" أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ".

ثم ينتقل السياق إلى الحديث عن مراحل خلق الانسان، وتدرّجه من النطفة إلى أحسن تقويم: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ".

وبعدها مباشرة تذكير بالموت والمعاد:" ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ".

ولعل تذكير الانسان بأصل خلقته وهو النطفة، دعوة الى ترك التعالي والطغيان في الأرض ومن بعدها تذكّر الموت و الحساب يوم القيامة هو سبيلٌ آخرالى تزكية النفس وردعها عن كل إفساد وفجور لا يليق بمن أراد الفلاح والنجاح في هذه الحياة.

ثم تضرب السورة مثلا بمن هلك من الأقوام السابقة ممن كانوا من الهالكين الخاسرين ولم يكونوا من الفائزين المفلحين كقوم نوح، وكيف يفلح من رفض الحق وكان من الظالمين:" فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ".

وكقوم فرعون، وكيف يفلح من علا واستكبر في الأرض:" ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ".

وهنا تتحدث السورة عن الفلاح المجتمعي، وتربطه بالصلاح، صلاح العقيدة، وصلاح الشريعة، أو الصلاح في المنهج والصلاح في التطبيق، وبعد وحدة المنهج تأتي وحدة الصف ونبذ الفرقة والخلاف ولا عجب أن تقرا في هذه السورة قوله تعالى:" وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ".

أمة واحدة في جذورها ومرجعيتها، وواحدة في غايتها ومقاصدها، وليست أمة أولى بالتوحيد من أمة دينها التوحيد.

إن من يظنون الفلاح في مظاهر شكلية،أو ترف باذخ، أو سعادة عاجلة في بيت واسع او مركب هنيء أو منصب عال ٍ، يحققون فلاحا زائفا ان كان ذلك بعيدا عن السعادة الحقيقية التي تكمن في طمأنينة الروح ورضا النفس التي لا تتحقق إلا في ظلال الإيمان:" أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ".

إن الفلاح كل الفلاح في قصد ما عند الله من الخيرات، وعدم القعود عن نيل رضا الرحمن بفعل القربات: "إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ *وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ".

وحين تقترب من نهايات السورة، يتجلى لك الفوز الحقيقي، والفلاح التام حين تعرض أعمالك وإنجازاتك في هذه الدنيا على الله يوم القيامة، فتثقل الحسنات وتطيش السيئات وتكتب عندها من أهل الجنات:" فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ".

وأي فلاح أعظم من أن تكون من أهل الجنة وتزحزح عن النار كما قال تعالى:" فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ" أل عمران – 185.

وكما أكدت السورة في بدايتها فلاح المؤمنين، يأتي ختام السورة ليؤكد أن الكافرين لا يفلحون:" وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ".

ويبقى فلاحك أيها العبد مرهونا برحمة ربك ومغفرته، فلا أحد يستحق الجنة بعمله:" وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ".

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

بين عقيدة الإسلام و”عقيدة الواقعية

للإسلام تفسيرٌ للواقع وتعاملٌ معه بناءً على علم الله به ومشيئته فيه، كما يثبتهما الوحي. …