مِن بين الأمور المهمة التي ناقشناها في مواضع سابقة من الحديث، ضرورة توافر المعارف الأساسية في مجالات علم النفس والسلوك والتربية بشكلٍ عامٍّ، عند الآباء والأُمَّهات، في ظل التعقيد الذي صارت عليه ظروف الحياة الإنسانية.
ومن بين أبرز نتائج غياب هذه المعرفة الضرورية عن أولياء الأمور، عدم قدرة أو سوء توصيف وفهم الآباء والأُمَّهات لكثير من المشكلات الموجودة لدى الأطفال.
وبالتالي؛ ينجمُ عن ذلك تفاقُم هذه المشكلات، وفي بعض الأحيان، خلق مشكلاتٍ جديدةٍ تستمر مع الأطفال، وقد تتحوَّل إلى نكوصاتٍ نفسية تلازمهم طيلة أعمارهم فيما بعد.
ومِن بين أبرز المشكلات الحاصلة في طرائق تقويم سلوك الأطفال، هو تقييم أولياء الأمور لبعض ما يأتي به الأطفال مِن مسالكٍ وأمورٍ.
فكثيرٌ من الآباء والأُمَّهات، يعملون على رصد وتقييم ما يأتي به الطفل من سلوكٍ أو أفعالٍ، وحتى مجالات اهتمامٍ بطريقة خاطئة تستند إلى ما ينظرون إليه هم أنفسهم على أنَّه "خطأ"، وفق منظورهم الشخصي للأمور، ووفق ما تربَّوا ونشأوا عليه مِن قيمٍ وأفكارٍ، ومِن دون فهم نقطة مهمة في هذا الصدد، وهي أثر التطوُّر الحاصل في الحياة الإنسانية بشكلٍ عام، في مختلف الاتجاهات.
فكثيرًا ما يكون التقييم خاطئًا لسلوكٍ ما بسبب أفكارٍ ومعتقدات لدى الأبِ أو الأم، تعود إلى التقاليد والأعراف، ولكن السلوك ذاته من الطفل ليس بالخطأ، سواء من وجهة النظر الأخلاقية الصَّرِفَة أو مِن وجهة نظر الدين.
وهنا من الضروري أنْ نقولَ إنَّ هذا التطوُّر ليس المقصود به فحسب النواحي المتعلقة بجانب واحد من جوانب حياتنا الإنسانية، مثل دخول الوسائط الرقمية على خط الوسائل المعرفية والتربوية، وإنَّما التطوُّر الأكبر يكمن في تطوُّر صور الحياة الاجتماعية ومساقاتها، وتعقيد التفاعلات فيها.
وبالتالي؛ فإنَّ هناك "عادات وتقاليد" و"أعراف" جديدة تتشكَّل من الأصل، لتحُل محلَّ تلك القديمة؛ حيث ينبغي الوضع في الاعتبار أنَّ العادات والتقاليد والأعراف التي يتبعها البعض، ليست أزلية، وإنما هي بدورها كان لها نقطة بِدءٍ قَضَت فيها، أو استُبْدِلَتْ بأخرى أقدمَ منها.
وهنا يدخل دُور توصيف المُكوِّن الثقافي والمعرفي الطبيعي وفق مقتضى العصر وتطوراته. ففي الماضي؛ كانت المعارف الجنسية "تابوهات" محرَّمة، ولا يجوز الاقتراب منها، وبالتالي، كان لَمس وجود مدركات مُعيَّنة لدى الطفل حولها، يستحق العقاب، بينما الآن؛ هذه الأمور متاحة للجميع، حتى لو لم يسعى إليها الطفل.
وبالتالي؛ فإنَّ وجود بعض هذه المُدركات لدى الطفل في وقتنا الراهن، قد لا يكون أمرًا يستوجب العقاب، في ظلِّ حتى اختلاف النظرة إلى أهمية توافر المعلومات المهمة لدى النشء حول هذه الأمور، بما لا يتجاوز صحيح الأخلاق، أي أنْ تكون في الاتجاه الصحيح الذي يفهم معه الطفل هويته كوَلَدٍ أو كفتاةٍ، وكيف يمكن أنْ يتفاعلَ بشكلٍ سويٍّ فيما بعض مع التغييرات التي تطرأ عليه بحسب نوعه.
الخطأ الأكبر الذي يقع فيه الآباء في هذا الإطار كذلك، هو مُعاقبة الطفل لمجرَّد أنَّه خالف وجهات نظرهم وتعليماتهم لمجرَّد الإحساس بالسلطة الأبوية عليه، والتَّمسُّك بما يُمكن أنْ نطلِقَ عليه مسمى "الاستبداد الأبوي" أو "الاستبداد الأسري"، مِن دون نظرةٍ موضوعية لهذا الفعل الذي أتاه الطفل.
أي أنَّ الخطأ هنا هو مجرَّد مخالفة ليس تعليمات الأبِ أو الأُمِّ، وإنَّما هو مخالفة وجهة نظر الأبِ أو الأُمِّ؛ تحكُّمًا فقط، وهذا يخالف قواعد التربية السليمة بالمطلق، وينشئ الطفل معقَّدًا، وربما يؤثر ذلك على استوائه النفسي طوال عمره.
وقد تُثار حيرة الآباء والأُمَّهات في هذا الصدد، في ظل حالة السيولة التي نحياها في كل المجالات، وطالت حتى الأخلاق.
هنا ينبغي أنْ يكونَ لدينا فهمٌ حقيقيٌّ لمقاييس لا خِلافَ عليها في هذا الصدد؛ لكي لا نُصابَ بالحيرة.
المقياس الأول، هو الدين. ما الذي يخبرنا به الدين في صدد هذا السلوك أو الفِعل، وهو مبدأ عام ينبغي لنا كمسلمين أنْ نتبنَّاه، وفي عموم حياتنا، وليس في هذه القضية فحسب.
ويزيد من أهمية هذا المقياس، أنْ رسالةَ الإسلام، هي بالأساس رسالةٌ أخلاقية. يقول الرسولُ الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم": "إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ (صالحَ) الأخلاق" [أخرجه أحمد].
وعن ابن عباس (رَضِيَ اللهُ عنهما) قال: "لما بَلغَ أبا ذر مبعثُ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاعلَم لي علمَ هذا الرجل الذي يزعم أنَّه نبيٌّ يأتيه الخبر مِن السماء، واسمع مِن قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدِمَهُ وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر، فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق" [أخرجه البخاري].
والإسلام في هذا –كما تعاليمه في كل اتجاهٍ ومجالٍ– شاملٌ، فنجد فيه، في القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة؛ حديثًا وسيرةً، الوصف الدقيق لكل السلوكيات والأخلاقيات الواجب أنْ تكون لدينا أو ينبغي لنا أنْ نتفاداها، حتى فيما يتعلق بالمعارف الجنسية، وحتى ما يخصُّ منها دقائق الأمور، مثل استئذان الطفل على أبوَيْه وما إلى ذلك.
المقياس الثاني، هو المقياس العلمي البحت. فهناك في علم النفس والسلوك الخاصة بالأطفال والنشء، مقاييس دقيقة لما هو سوي/ غير سوي من سلوك لدى الأطفال، وما ينبغي/ لا ينبغي أنْ يتوافرَ لديهم من معارف ومفاهيم، وجداول دقيقة لهذه المعارف والمفاهيم بحسب المرحلة السِّنِّيَّة التي يمرُّون بها.
وهنا تظهر نسبية الخطأ، فما هو خطأ في السادسة مِن العُمر، لا يكون كذلك في السادسة عشرة، بل قد تكون هناك معارف لا ينبغي للطفل السعي إلى الاطلاع عليها، ثم يصبح مِن الضروري الاطلاع عليها في سنٍّ لاحقة، بالذات في مرحلة المراهقة والبلوغ؛ حيث من الضروري إفهام الطفل ما يطرأ عليه من متغيِّرات.
وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّ هذا الباب من النقاش واسع، وما سبق؛ إنَّما هو رؤوس موضوعات وتنويهات لما ينبغي أنْ يقومَ الأبُ والأُمُّ بتعميق اطِّلاعهم عليه وكسبَه مِن معارف في هذا الاتجاه، وتبقى نقطة مصادقة الطِّفل وكسب ثقته هي من أهمِّ الأدوات المعاوِنة في هذا الأمر، وفي غيره من مسارات التربية الصحيحة.