قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8].
إن كتمان السِّر من أفضل أخلاق المؤمنين فهو جزء من كل الصفات الفاضلة، فهو عماد الأمانة، وصلب الوفاء، وعنوان المروءة، وأصل الحياء، ورأس الوقار، وزينة العقل ومكارم الأخلاق ولذلك لم يرد نصاً صريحاً في القرآن الكريم يوصي بـ "كتمان السِّر" ليس استهانة بهذه الصفة ولكن لكونها أصل لكل المحامِد فإذا انتفت صفة "كتمان السِّر" انهار جبل الأخلاق .
جاء في كتاب (المستطرف في كل فن مستظرف) أن الإمام علي رضي الله عنه قال: "إن أمناء الأسرار أقل وجودًا من أمناء الأموال، وحفظ الأموال أيسر من كتمان الأسرار؛ لأن أحراز الأموال مَنيعة بالأبواب والأقفال، وأحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق، ويشيعها كلام سابق".
قال الشيخ بن عثيمين رحمه الله في (شرح رياض الصالحين): "الأمانة باب واسعٌ جدًّا، وأصلها أمران: أمانة في حقوق الله: وهي أمانة العبد في عبادات الله عزَّ وجلَّ. وأمانة في حقوق البشر".
جاء في (إحياء علوم الدين) أن الحسن البصري رحمه الله قال: "إنما تُجالسوننا بالأمانة، كأنَّكم تظنُّون أنَّ الخِيانة ليست إلاَّ في الدِّينار والدِّرهم، إنَّ الخيانة أشدَّ الخيانة أنْ يُجالسنا الرجل، فنطمئن إلى جانبه، ثم ينطلق فيسعى بنا".
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيَّ ﷺ قال: " كفى بالمرءِ إثمًا أنْ يُحدِّثَ بكلِّ ما سمِع " (صحيح ابن حبان).
ليس كل ما يُعرف يُقال
سنتناول الحديث في هذه النقطة من خلال أمرين وردا في سنة الحبيب المصطفى ﷺ، وهما:-
1- كلنا يعلم أن لقب الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه هو (كاتم سر رسول الله ﷺ) وسبب تسميته بهذا اللقب هو أن النبي ﷺ أسر إليه بأسماء المنافقين قبل موته ﷺ.
كان الصحابة رضوان الله عليهم يعرفون المنافق من غير المنافق من صلاة حذيفة بن اليمان رضي الله عنه على الميت من عدمه، فإذا صلى عليه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه صلاة الجنازة علموا أن الميت ليس من المنافقين، وإذا امتنع حذيفة بن اليمان رضي الله عنه من الصلاة عليه علموا أن الميت من بين المنافقين الذين أسرَّ له النبي ﷺ بأسمائهم قبل وفاته.
ورد في تفسير الطبري: "ذكر لنا أن نبيّ الله ﷺ أسرَّ إلى حذيفة باثني عشر رجلاً من المنافقين، فقال: "ستة منهم تكفيكَهم الدُّبيلة، سِراج من نار جهنم، يأخذ في كتف أحدهم حتى تُفضي إلى صدره، وستة يموتون موتًا. ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رحمه الله، كان إذا مات رجل يرى أنه منهم، نظر إلى حذيفة، فإن صلى عليه، وإلا تركه. وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة: أنشُدُك الله، أمنهم أنا؟ قال: لا والله، ولا أومِن منها أحدًا بعدك!" اهـ.
(الدبيلة: خرَّاج ودمِّل كبير يتسبب في قتل من يصاب به).
عن حذيفة رضي الله عنه قال: دُعِيَ عُمرُ لجنازةٍ فخرج فيها أو يريدها فتعلَّقْتُ به فقلتُ: اجلسْ يا أميرَ المؤمنينَ فإنَّهُ أولئِكَ، فقال: نشدتُكَ باللهِ: أنا منهم؟ فقال: لا ولا أبرِّئُ أحدًا بعدَكَ" (الصحيح المُسند).
* من هنا نعلم أنه كانت في حياة النبي ﷺ أسرار وكان يخفيها طالما أنها ليست من التشريع، وأنه ﷺ يعلم أنها بالنسبة لعموم المسلمين (علم لا ينفع وجهل لا يضر)، بل إن معرفتها بالنسبة لعموم المسلمين قد يكون إثمها أكثر من نفعها.
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "حَفِظْتُ مِن رَسولِ اللَّهِ ﷺ وِعَاءَيْنِ: فأمَّا أحَدُهُما فَبَثَثْتُهُ، وأَمَّا الآخَرُ فلوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هذا البُلْعُومُ" (صحيح البخاري).
* في هذا الحديث نجد أن الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه يقول أن ما حفظه عن النبي ﷺ عبارة عن وِعَاءَيْنِ..
الوعاء الأول هو ما وصلنا منه عن النبي ﷺ من أحاديث وقد بلغت (5,374 حديثاً).
أما بالنسبة للوعاء الثاني الذي لم يبثه أبو هريرة رضي الله عنه ولم يُخبر به أحد فيقول الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره: "قال علماؤنا: وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن، والنص على أعيان المرتدين، والمنافقين، ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى، والله تعالى أعلم" اهـ.
* من كل ما سبق نعلم أن هناك من العلم ما يجب كتمانه للمصلحة عملاً بقول الإمام علي رضي الله عنه (ليس كل ما يُعرف يُقال، وليس كل ما يُقال حضر أهله، وليس كل ما حضر أهله، حان وقته، وليس كل ما حان وقته صح قوله).
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: "إن الإسلام يكره الخيانة، ويحتقر الخائنين الذين ينقضون العهود، ومن ثم لا يحب للمسلمين أن يخونوا أمانة العهد في سبيل غاية مهما تكن شريفة.. إن النفس الإنسانية وحدة لا تتجزأ، ومتى استحلت لنفسها وسيلة خسيسة، فلا يمكن أن تظل محافظة على غاية شريفة.. وليس مُسلماً من يبرر الوسيلة بالغاية، فهذا المبدأ غريب على الحس الإسلامي والحساسية الإسلامية، لأنه لا انفصال في تكوين النفس البشرية وعالمها بين الوسائل والغايات.. إن الشط المُمَرَّع لا يغري المسلم بخوض بركة من الوحل، فإن الشط المُمَرَّع لابد أن تلوثه الأقدام المُلوثة في النهاية.. من أجل هذا كله يكره الله الخائنين ويكره الله الخيانة" اهـ.
(مُمرع: خِصب وكثير العُشب).
- إن كل ما سبق يعلمنا ضبط النفس وحفظ اللسان وحفظ الأمانات وعلى رأسها أمانات المجالس وأسرارها، إلا سر نهانا الشرع عن كتمانه.
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: " المَجَالسُ بالأمانةِ، إلا ثلاثةُ مجالسَ: سفكُ دمٍ حرامٍ، أو فرجٌ حرامٌ، أو اقتطاعُ مالٍ بغيرِ حقٍّ" (الجامع الصغير بإسناد حسن).
ختاماً أقول:
إن من أهم صفات القائد هو أن يكون قدوة في الحفاظ على وحدة النفوس وصفاء القلوب، والبعد كل البعد عن ما يجلب الفرقة والشقاق ، طالما أن ذلك كله في حدود ما شرَّع الله تعالى فلم يُحِل حراماً ولم يُحرِّم حلالاً، وعلى الأفراد أن ينهجوا هذا النهج فلا تجسس ولا تتبع لعورات ولا طلب لعثرات ولا تضخيم هفوات ولا إثارة شبهات، ولا خوض فيما هو مسكوت عنه، مِصداقاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ {101} قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِين} [المائدة: 101-102].وأقول
إنه حين يلتزم المجتمع المسلم بحفظ أسرار المجالس وأماناتها نجد أن لُحمة المجتمع قد توطدت ونسيجه قد قوي على عكس المُجتمعات التي تلهث وراء الأسرار وترصد الذلات وتتبع العورات وتوثق الفضائح ولربما لجأت إلى العنف والجريمة لتحقيق هذه المآرب الدنيئة وتعتبر أن ما تحت أيديها من أسرار شخصية ودولية سيفاً مُسلطاً على رقاب الأفراد وخنجراً في خاصرة الدول تستخدمها لتحقيق أغراض خسيسة وأهداف وضيعة فتكون كل هذه التصرفات مثل السوس الذي ينخر في جسد المجتمع بأكمله حتى إذا جاء وعد الله أتى بنيانهم من القواعد فهلك الجميع.اللهم طهِّرْ قلوبنا وأحسن نوايانا واحفظ اللهم ما نُبدي وما نُخفي واحفظنا اللهم من بين أيدينا ومن خلفنا ونعوذ بك يا ربنا أن نغتال من تحتنا.