انشغل المفكرون والعلماء منذ القدم في تأمل حاجات الإنسان الجسدية والنفسية، سواء الأساسية منها والتكميلية، مثل الحاجة إلى الطعام والشراب، والحاجة إلى الأمن والسلامة، والحاجة إلى العِشرة والمجتمع، والحاجة إلى الاحترام والتقدير، كما انشغلوا في محاولات لترتيب هذه المتطلبات في سلم من الأولويات، وكادوا أن يتفقوا على أولويات يسير عليها معظم البشر.
لو أن قرية أصابتها مجاعة حادة، فعدم أهلها الغذاء والماء حدّ الهلكة وصاروا جلدا على عظم لكان همهم تحصيل لقمة تقيم الإود وتدفع الموت، ولن تجد من يفكر بالجنس أو الرفاهية، فقد توارات هذه الاهتمامات إلى مرتبة ضائعة.
فإذا حفظ المرء حياتة من الهلكة وأشبع بطنه تطلّع إلى تحسين نوعية الحياة وإلى سلة جديدة من الاهتمامات، هذه هي فكرة ترتيب الأولويات.
ورغم أن كثيرين تحدثوا في الموضوع إلا أنه اشتهر منهم هرم ماسلو للاحتياجات البشرية، وهو الآن الأكثر قبولا وانتشارا
قدم عالم النفس أبراهام ماسلو هذا الترتيب عام 1943 في ورقته البحثية (نظرية التدافع البشري) وشرحها لاحقا في كتابه (الدافع والشخصية).
والنظرية في عمومها تبدو صحيحة، رغم أنها لا تنطبق على كل البشر، ولتكميلها يلزم بعض الاستدراكات.
منها أن مقدار إشباع الحاجة يختلف من شخص لآخر، فلربما يفضل أحدهم أن يستزيد من الأكل والشرب بينما فضل الآخر أن يقفز إلى مستوى أعلى بمجرد تأمين ما يسد الرمق، ولذلك ارتبطت هذه النظرية بالشخصية.
بل إن الانتقال من مستوى لآخر ليس صارما عند ذات الفرد، فهو يعدد مستوياته ويتحرك بينها صعودا وهبوطا، ويبرز هذا واضحا مع تقدم العمر وليس فقط بتحسن المدخول المادي، فلا شك أننا بتقدم العمر نعطي مزيدا من الأهمية للاحترام والتقدير والمجتمع والأسرة على حساب الحاجات الفسيولوجية.
يبقى من أهم المآخذ على النظرية أنها أغفلت الجانب الروحي والديني الذي لا جدال في أهميتة عند أفراد في المجتمعات ليس عددهم بالقليل.
والآن ما هي الفائدة التي تستفاد من دراسة أمر كهذا؟
لا شك أن إدراك الأمر يساعد على التخلص من ضغط الحاجات وثقلها على النفس -ولو قليلا- كما يحفز البحث عن البدائل التي تفك قيودها.
كما لاحظ كثيرون أن استمرار نقص الحاجات الأساسية على امتداد زمن طويل يتسبب في استقرار خطرها في الذهن وإلى تضخيم أهميتها بطريقة يصبح من الصعب التخلص من أثرها، ويدفع نحو الإصرار على السعي لتأمينها بما يتجاوز التوازن المطلوب.
هذا خطأ يجب على كل منا أن نتنبه حتى لا نقع فيه، ومن أصيب به يحتاج إلى توعية ورد للتوازن.
وبشكل أوسع: فمن المؤسف أن المتسلطين الذين يمسكون بخناق الشعوب يستغلون الحاجات الضرورية ويسعون لامتلاكها، فإذا تمت لهم السيطرة على مصادرها تحكموا برقاب الناس، ولم ينفقوا منها إلا بمقادير تضمن لهم بقاءهم في سدة السلطة، وعلى الشعوب أن تدرك أنه لا يمكن اللهاث وراءهم إلى ما لا نهاية، والحل يكمن في إنهاء هذا السيطرة.