لم يكن أحدٌ يتوقَّع أنْ تكون نهاية مطاف معركة إغلاق باب الرحمة، أحد أبواب الحرم القُدسيِّ الشريف، بإعادة فتحه في العام 2019م، بعد 16 عامًا من إغلاق سلطات الاحتلال له، في هبَّةٍ عُرِفَتْ في حينه بـ"هبَّة باب الرحمة".
فمنذ فتح السور، والكثير من التحريض والتحرُّشات تتم من الجانب الصهيوني، سواء المستوطنين اليهود، ولاسيما المتدينين (الحريديم)، أو أجهزة الأمن والمخابرات التابعة للاحتلال.
ولكن، في الآونة الأخيرة، زادت ضغوط سلطات الاحتلال بإيعاز مِن جماعات اليمين المتطرف التي تهيمن على الحكومة الصهيونية، من أجل مساومة الحكومة الأردنية صاحبة الولاية القانونية على المقدسات في القدس المحتلة، ودائرة الأوقاف بالقدس، على وقف أعمال الترميم والإعمار الحالية التي تقوم بها الحكومة الأردنية ودائرة الأوقاف في الحرم، نظير عدم إغلاق باب الرحمة مجددًا، بحسب ما نشره بعض الباحثين.
معروف نقل عن صحيفة "يسرائيل هايوم" ["إسرائيل اليوم" بالعبرية]، انتقادات كبيرة من جانب جماعات اليمين المتطرف التي تهيمن على وزارة الأمن الداخلي ووزارة القدس، للعاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني بن الحسين، ودائرة الأوقاف الإسلامية بالقدس بسبب أعمال الترميم والإعمار الحالية في المنطقة، والتي يطلق عليها الصهاينة مسمَّى "جبل المعبد" أو "جبل المكبر".
النقطة هنا أنَّ سلطات الاحتلال تمنع اليهود من الوصول إلى المنطقة بسبب الإجراءات الاحترازية الخاصة بوباء "كوفيد- 19"، فيما تريد هذه المنظمات، ومنها "مؤسسة جبل المعبد" و"مؤسسة تراث جبل المعبد" و"منظمة طلاب من أجل المعبد"، أنْ توقف سلطات الاحتلال الأعمال الأردنية والفلسطينية التي تتم هناك، ونقل تبعية المكان إلى سلطة الآثار الصهيونية.
إلا أنَّ الأمر أعمق مِن ذلك السجال والمشاغبات التي تتم من جانب "الحريديم" الذين يرفضون التقيد بشكل عام بإجراءات الكورونا، سواء في القدس أو في الكيان الصهيوني بشكل عام، أو من جانب سلطات الاحتلال.
فهناك خطط من جانب هذه الجمعيات إلى اقتحام منطقة مصلى الرحمة الواقعة خلف هذا الباب – في الأصل هو فتحة مكوَّنة من بابَيْن؛ باب الرحمة جنوبًا، وباب التوبة شمالاً – وتحويل المكان إلى كُنَيِّسٍ يهودي.
فهذه المنطقة في المعتقد اليهودي، هي أحد بقايا الهيكل الأوَّل الذي بناه نبيُّ اللهِ تعالى، سيدنا سليمان (عليه السلام)، وأنَّه كان المدخل الرئيسي له، ويعتقدون أنَّه الباب الذي سوف يدخل منه المسيح المُخَلِّص في عقيدتهم، والذي يُعيد حكم بني إسرائيل للعالم، ولذلك هم يطلقون عليه مسمَّى "باب النصر" أو "الباب الذهبي".
وهناك في ذلك تصريحٌ مهم للمتحدث باسم "اتحاد منظمات الهيكل" في العاشر من مارس 2019م، أساف فريد، عندما تم إعادة فتح الباب، دعا فيه اليهود المتدينين والمستوطنين إلى اقتحام مُصلَّى الرحمة وبسط سيطرة الاحتلال على المكان، وتحويل مُصَلَّى الرحمة إلى كُنَيِّسٍ يهوديٍّ باسم " كُنَيِّس باب الرحمة"، والصلاة فيه بالقوة.
ولهذا جذورٌ تاريخية؛ حيث إنَّ الصليبيين عندما احتلوا القدس في نهايات القرن الحادي عشر الميلادي، خلال الحملة الصليبية الأولى، أغلقوا المدينة في وجه اليهود، باعتبار مسؤوليتهم عن صَلْب السيد المسيح (عليه السلام) وفق المعتقدات المسيحية، ولكنهم – الصليبيون – كانوا يسمحون لليهود بالتعبُّد خارج أسوار البلدة القديمة تجاه هذا الباب، فأطلق عليه اليهود مُنذ ذلك الحين، اسم "باب الرَّحمة".
ولذلك، عندما استعاد صلاح الدين الأيوبي المدينة من قبضة الصليبيين، أغلق الباب حمايةً للبلدة من أيَّة مطالبات يهودية بحقوق تاريخية هناك، أو استغلال الموقف للعودة إلى المسجد الأقصى بعد أنْ منعه عمر بن الخطَّاب (رضي اللهُ عنهم) مِن المكوث في المدينة بعد فتحها في العام 637م، السادس عشر للهجرة النبوية الشريفة.
وبقطع النظر عن الروايات التاريخية المتعددة عن بناء المُصَلَّى والتواريخ المختلفة لغلق الباب وأسباب ذلك خلال حُقَب الحكم الإسلامي المختلفة للقدس؛ إلا أنَّ شاهد الحال؛ فإنَّ هناك مخاطر جسيمة تستهدف هذه المنطقة.
وكعادة الصهاينة؛ فإنَّهم لا يقومون بأيَّة إجراءات بشكل مباشرٍ أو مفاجئ؛ وإنَّما يتم ذلك بالتدريج على مدار سنوات طويلة، وبمنطق الخطوة خطوة.
ومن خلال شهادات عديدة في هذا الصدد؛ فإنَّ الإجراءات الصهيونية في ذلك الأمر، بدأت قبل أكثر من ربع قرنٍ؛ خلال حكومة نتنياهو الأولى، وبطرائق عديدة؛ حيث بدأت سلطات الاحتلال تدريجيًّا في نقل صلاحيات الإعمار من الأوقاف الإسلامية في القدس التابعة للأردن، وخصوصًا بعد اندلاع "انتفاضة الأقصى" الثانية في العام 2000م.
في ذلك الوقت، منعت قوات الاحتلال إخراج آخر أجزاء الردم الناتج عن فتح البوابات الكبيرة للمصلى المرواني، وهو ما وضع الأوقاف الإسلامية في القدس أمام خياراتٍ صعبة، فكوّمت الردم في المساحات المزروعة بالزيتون شرقي المسجد الأقصى المبارك باعتبارها أخف الأضرار لحين إيجاد طريقة لإخراجه.
وبحسب باحثين، فإنَّ هذا الرَّدم لا يزال مُكَوَّمًا حتى اليوم، وشكَّل على مدى السنوات الماضية سببًا لعزل هذه المنطقة عن الحرم القدسيِّ الشريف، ولمحدودية الصلاة فيها، فكان بذلك أبرز مدخل للمستوطنين والاحتلال لاستهداف الساحة الشرقية للأقصى، ولذلك، كان مجالاً أساسيًّا لمبادرات الرباط في الحرم.
ثم تم منع ترميم سور "المدرسة الخثنية" من الجهة الجنوبية، والسور الخارجي من الجهة الجنوبية الشرقية للأقصى، وذلك في العام 2003م، وبعد ضغوط دبلوماسية أردنية، تمَّت الترميمات، واستغرقت 4 سنوات بسبب العراقيل الصهيونية.
وفي العام 2011م، قدم مرَّاقب عام الدولة في الكيان الصهيونية، تقريرًا ردَّد فيه مزاعم جماعات الهيكل تجاه أعمال الترميم "باعتبارها تدمر الإرث اليهودي في جبل المعبد"، وقدم توصيةً بإخضاع كل ترميمات الأوقاف الإسلامية في البلدة القديمة بالقدس المحتلة، إلى موافقة بلدية الاحتلال في القدس، وتم ذلك بالفعل في السنوات التالية، بشكلٍ تدريجيٍّ.
فكان، في يناير 2019م، أنْ قامت بلدية الاحتلال من دون علم الأوقاف الإسلامية، بترميم السور الجنوبي الغربي للحرم، ثم ترميم "الخلوة الجنبلاطية" في صحن الصخرة في مايو من نفس العام.
ووصل التضييق إلى مستوى حتى منع معالجة بعض الأمور الصغيرة، مثل تغيير الزجاج أو إصلاح الإضاءة المعطلة، ثم بدأت سلطات الاحتلال في طرح موضوع التقسيم المكاني لمُصَلَّى باب الرحمة – الذي كان قد تم إغلاقه بقرار قضائي صهيوني في العام 2003م – مثلما تم مع المسجد الإبراهيمي.
مما سبق؛ يتَّضح لنا أنَّ هناك معركة حقيقية تدور تحت السطح، تحارب فيها دائرة الأوقاف الإسلامية وبعض الرموز الدينية في المدينة المحتلة، حربًا حقيقية ضد مخططات ناعمة كالأفعى تقوم بها سلطات الاحتلال لكي تتسلل بها إلى منطقة هي مِن أهم ما يمكن بالنسبة للحرم القدسي والمقدسات الإسلامية في المدينة.
ولكننا – كالعادة – لا نسمع أيَّ شيءٍ وسط ضجيج وصخب حديث الانتخابات والعقوبات على إيران والأزمات المنتظرة بين إدارة بايدن وبعض الحكومات العربية، بينما قضايانا الأهم؛ قيد الإهمال السياسي والإعلامي الفصائلي والرسمي الفلسطيني والعربي والإسلامي!!