إن نظرة المجتمعات والدول للزيادة السكانية تختلف حسب ثقافة هذه المجتمعات، وتتنوع حسب خطط وأهداف واستراتيجيات هذه الدول.
جاء في كتاب "حركة تحديد النسل" للأستاذ أبي الأعلى المودودي، أن المفكر الهندي الأستاذ محمد إقبال قال: "هناك سيل عرمرم من الكتب والرسائل التي تحاول أن تجرف بلادنا إلى اتباع خطة منع الحمل، على حين أن أهل الغرب في بلادهم أنفسهم يتابعون الجهود الفنية لرفع نسبة المواليد وزيادة السكان، ومن أهم أسباب هذه الحركة عندي أن عدد السكان في أوربا في تدهور شديد بينما عدد السكان في الشرق في زيادة مطردة، وهذا ما ترى فيه أوروبا خطراً مُخيفاً على كيانها السياسي" أهـ.
أولاً: نظرة بلاد الغرب والطوائف الغير إسلامية للزيادة السكانية
في دول الغرب والطوائف الغير إسلامية نجد انتشار سُبل التوعية بأهمية زيادة الإنجاب ، كما أنها تشجع مواطنيها على الإنجاب عن طريق المنح والهدايا والمزايا وسُبل الرعاية التي تجعل المواطنين يُقدمون على أمر الإنجاب على أنه واجباً وطنياً بل ودينياً يجب أخذه بمحمل الجد وتنفيذه على التو.يقول الرئيس الأمريكي روزفلت (الرئيس الثاني والثلاثين للولايات المتحدة من عام 1933 حتى وفاته في عام 1945):
"إن أمة لا يريد رجالها الحرب ولا تريد نساؤها الحمل هي أمة قد أصيبت في صميم قلبها".
ويقول الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي "بيتيريم سوروكين" في كتابه (الثورة الجنسية في أمريكا):
"إن من قانون الفطرة أن الأمة إذا لبَّت نداء الشهوات النفسية وانقطعت إلى التشرد والجنس، فإنها تغفل عن إنجاب الذرية، وتحسب أن الأطفال يُشكِّلون عقبة في سبيل حريتها ولذاتها ورخائها الاقتصادي، وهذا السلوك؛ أي تحديد النسل، المُعادي للفطرة، يُرَغِّب العاكفين على عبودية الشهوات الجنسية إلى استخدام الوسائل المتنوعة لمنع الحمل وإسقاط الجنين، ويكون نتيجة ذلك انحطاط الأمة وتناقضها، وهكذا هو الانتحار".
وجاء في كتاب "الإسلام قوة الغد العالمية" للمفكر الألماني (بول شميتز):
"تشير ظاهرة نمو السكان في أقطار الشرق الإسلامي إلى احتمال وقوع هزة في ميزان القوى بين الشرق والغرب، فقد دلت الدراسات على أن لدى سكان هذه المنطقة خصوبة بشرية تفوق نسبتها لدى الشعوب الأوربية، وسوف تمكن الزيادة في الإنتاج البشري الشرق على نقل السلطة في مدة لا تتجاوز بضعة عقود، وسوف ينجح في ذلك نجاحًا لا نرى من أبعاده إلا النذر اليسير" أهـ.
وجاء في كتاب "قذائف الحق" للشيخ محمد الغزالي رحمه الله، أن البابا شنودة في أحد اجتماعاته بالإسكندرية مع رجال الدين المسيحي وأثريائهم، قال:
"... ولذلك فإن الكنيسة تحرم تحريماً تاماً تحديد النسل أو تنظيمه، وتعد كل من يفعل ذلك خارجاً عن تعليمات الكنيسة، ومطروداً من رحمة الرَّب، وقاتلاً لشعب الكنيسة، ومُضيعاً لمجده، وذلك باستثناء الحالات التي يقرر فيها الطب والكنيسة خطر الحمل أو الولادة على حياة المرأة..." أهـ.
ثانياً: نظرة الدول العربية والإسلامية للزيادة السكانية
إننا نجد الدول العربية والإسلامية تصرخ لدرجة العويل من حجم الزيادة السكانية وتعتبرها طامة كبرى، وتطلق عليها "مشكلة الانفجار السكاني"، بل وتحذر مواطنيها من كوارث مُحققة بسبب زيادة الإنجاب ، ووصل الأمر إلى التلويح بالتهديد بعقوبات وغرامات وحرمان من الدعم وغيره من الحقوق.
ففي مصر مثلاً، حسب ما ورد في جريدة المصريون بتاريخ 28 أكتوبر 2017 اقترحت ما تسمى منظمة العدل والتنمية الحقوقية، على مجلس النواب مشروع قانون - لمواجهة ما أسمته ظاهرة الانفجار السكاني في مصر- يقوم بفرض غرامة مالية قدرها 5 آلاف جنيه قابلة للزيادة على الزوجين كل بمفرده وحرمانهم من وسائل الدعم الحكومية وعلى رأسها التموين، من بعد إنجابهم للطفل الثالث على أن توضع قيمة الغرامات بصندوق يخصص كميزانية للصرف على تقديم وسائل لتحديد النسل للأسر بعد إنجاب الطفل الثاني ...وأن القانون سيكون به مادة لأخذ إقرار على الزوجين بتوقيع عقوبة الغرامة وذلك الإقرار يتم تحريره عند عقد زواجهما.
ومن الأمور التي تعمل حكومات الدول العربية جاهدة للوصول إليها -بإيعاز ودعم وتشجيع من المنظمات العالمية- هو الوصول إلى إضعاف خصوبة الشعوب العربية للحد من قدرتهم على الإنجاب.
يقول فضيلة الشيخ أبو الأعلى المودودي في كتاب "حركة تحديد النسل":
"وممَّا لا مجال فيه لأدنَى شك أن تحديد النسل ظُلمٌ صريح للمرأة، فهو ينشب الحرْب بينها وبين فطرتها نتيجة لذلك، يختلُّ فيها نظامها الجسدي، وينهار عليها جهازُها العصبي" أهـ.
*إن التناقض بين النظرتين -الغربية والشرقية- للزيادة السكانية يتمثل في الفرق بينهما في حسن التخطيط، وفي التوظيف الأمثل للزيادة السكانية مهما كان حجمها.
إن التناقض بين النظرتين -الغربية والشرقية- للزيادة السكانية يتمثل في الفرق بينهما في حسن التخطيط، وفي التوظيف الأمثل للزيادة السكانية مهما كان حجمها
ثالثاً: المخطط الغربي للحد من الإنجاب في الدول العربية والإسلامية
إن الدول الغربية والمنظمات العالمية تعمد إلى نشر ثقافات وأفكار في البلاد العربية والإسلامية من شأنها تغيير ما لدى هذه الدول من ثوابت دينية وموروثات اجتماعية بخصوص الإنجاب، ومن شأنها تصوير الزيادة السكانية على أنها أصل كل الشرور، وأنها العائق أمام التقدم لأنها تلتهم الإنتاج وتعرقل خطط التنمية، إلى غير ذلك من مفاهيم خاطئة لا يطبقونها هم في بلادهم.
إن من يدعون للحد من الإنجاب نسوا أو تناسوا أن الله تعالى بحكمته قد خلق للإنسان يدين وفماً واحداً للدلالة على أن الإنسان مطلوب منه أن يُنتج ضعف ما يستهلك ، وأن غير ذلك يعتبر فشلاً في التخطيط وسوء استغلال للموارد.ومن وسائل الغرب في هذا الجانب
1- الترويج لفكرة العزوف عن الزواج.
* يقول الإمام أحمد رحمه الله: "ليست العزوبة من الإسلام في شيء، ومن دعاك إلى غير الزواج دعاك إلى غير الإسلام" أهـ.
2- الضغط على الحكومات لإصدار قوانين تهدف إلى رفع سن الزواج والحد من الإنجاب، وذلك عن طريق أذرعها وجمعياتها المنتشرة في الدول العربية والإسلامية، وربط المعونات لهذه الدول بمدى استجابتها لهذا الشأن.
3- إغراق الدول العربية والإسلامية بوسائل منع الحمل.
4- إغراق الدول العربية والإسلامية بوسائل غير مشروعة تؤدي إلى الإجهاض والعقم.
5- إغراق الدول العربية والإسلامية بعقاقير وأغذية ملوثة تؤدي إلى ضعف الخصوبة وقلة الإنجاب.
6- إغراق الدول العربية والإسلامية بالبضائع الرخيصة التي تؤثر على الاقتصاد المحلي وترفع نسبة البطالة للترويج أن الزيادة السكانية هي السبب في المشكلة وعواقبها.
يقول العلامة مصطفى الزرقا في كتابه (فتاوى مصطفى الزرقا):
"تحديد النسل بأي وسيلة من الوسائل لا يجوز في ظل الإسلام أن يكون هدفًا عامًا في الدولة، تهدف إليه وتخطط له، وتحمل عليه الناس بتدابير عامة، ولا يوجد مانع شرعي في الإسلام من اتخاذ تدابير شخصية من كل فرد بحسب ظروفه الخاصة وقدرته المالية، بتحديد نسله بطرق منع الحمل، دون طرق الإجهاض التي فيها عدوان على جنين متكون؛ إلا في حالات الضرورات التي تصل إلى درجة المحظورات، كضرورة إنقاذ حياة الأم إذا توقف الإنقاذ على إسقاط حملها. هذا ما تدل عليه نصوص الشريعة وعموماتها وكلام الفقهاء، وهو الموقف الذي استقر عليه رأي علماء الشريعة المعاصرين في عدة مناسبات وحلقات اجتماعية" أهـ.
رابعاً: طرق تحقيق التوظيف الأمثل للزيادة السكانية في الدول العربية والإسلامية
إن من ينظر لمساحة الدول العربية والإسلامية يجد أنها تمثل 9.8% من مساحة اليابسة والمنطق يقول أنه من المفروض أن يكون عدد السكان في هذه الدول يمثل 10% من عدد سكان العالم ولكن الواقع يقول أن عدد سكان هذه الدول لا يمثل سوى 5.34% من سكان العالم بحسب إحصاء البنك الدولي ومكتب الأمم المتحدة الإحصائي.
ومن ينظر لمساحة الأراضي الصالحة للزراعة والاستثمار الزراعي في الوطن العربي يجد أن المستغل منها لا يصل إلى 20% والمثال على ذلك أن دولة كمصر يعيش كل سكانها على 4% فقط من المساحة الكلية التي تبلغ 1 مليون كم2.
مما سبق يتضح لنا أن المشكلة الحقيقية ليست في عدد السكان، وليست في قلة الموارد، بل في الفشل في التخطيط لاستغلال الموارد التي منها الموارد البشرية التي كانت سبباً رئيساً في جعل العديد من دول العالم في مصاف الدول العظمى!
إن التوظيف الأمثل للزيادة السكانية واعتبارها ثروة بشرية يجب الحفاظ عليها والإكثار منها يتمثل في:-
1- حسن التخطيط في مجالات الرعاية المختلفة وعلى رأسها الصحة والتعليم والتأهيل وعدم خصخصة هذه الجوانب تحديداً لكي تكون حقاً أصيلاً لكل المواطنين دون تفرقة.
يقول الشيخ شلتوت رحمه الله: "إن الشريعة في الوقت الذي حثت فيه على كثرة النسل إنماءً للأمة وتكوينها لقوتها قضت بصيانة هذه الكثرة من الضعف ومن أن تكون غثاء كغثاء السيل" أهـ.
ويقول: " وأن الولد لم يكن حقاً لوالديه إلا بمقدار ما يهيئانه لخدمة الأمة والقيام بنصيبه فيها" أهـ.
2- فتح مجالات وأفق جديدة للنمو الاقتصادي والاستفادة من خبرات الدول التي قطعت شوطاً في هذا المجال ليكون عائد هذا النمو الاقتصادي ملحوظاً على السكان عن طريق تلبية احتياجاتهم الأساسية.
3- العدالة الاجتماعية في توزيع ثروات البلاد ومقدراتها، وكذلك في فرص التوظيف، وعدم جعل ارتقاء الوظائف وتقلد المناصب حِكراً على فئة دون أخرى.
4- وضع خطط التنمية المُستدامة في مجالات الإسكان والمرافق واستصلاح الأراضي وغيرها، لكي تتمشى مع الزيادة السكانية.
5- رفع الأجور بما يتناسب مع الإنتاج لتفجير طاقات الشباب في العمل، والحد من البطالة، ووقف نزيف الأدمغة وهجرة العقول للخارج.
6- تشجيع الزواج المبكر وتيسيره، وصرف إعانات للمقبلين على الزواج، وزيادة إعانة رعاية الطفل، والاهتمام بمؤسسات الطفولة والأمومة.
7- تشجيع العمل الخيري التكافلي والتضامني على المستوى المحلي والعربي والإسلامي.
8- حسن استغلال الموارد الطبيعية في البلدان العربية والإسلامية وتفعيل سهم الزكاة فيها لتتمكن الشعوب والحكومات والمؤسسات الخيرية من القيام بواجبها نحو المواطنين.
9- تفعيل الجوانب الشرعية التي أباحت التعدد، للحد من العنوسة، ولرعاية الأرامل والمطلقات، ولحُسن رعاية الأيتام.
10- التوعية بمدى خطورة مخططات دول الغرب وجهودها المبذولة للحد من النسل والقضاء على الخصوبة في البلاد العربية والإسلامية، وكذلك التوعية بأضرار وسائل منع الحمل على الصحة العامة.
وللحديث بقية في الجزء الثاني من نفس الموضوع إن شاء الله تعالى