الفتنة والمجاهدة …. سورة العنكبوت

الرئيسية » بأقلامكم » الفتنة والمجاهدة …. سورة العنكبوت
سبب_تسمية_سورة_العنكبوت

تبدأ سورة العنكبوت لتؤكد حقيقةً مهمةً، وهي أن المؤمن مبتلى في دينه،: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ".

فالإيمان ليس مجرد كلمة تقال، وإنما له ما بعده من التكليفات والتبعات، وأنّ المؤمن سوف يتعرّض بسبب إيمانه إلى مزيد من الابتلاء والفتن.

ولذلك تنكر السورة على صنف من الناس يتعاملون مع الدين على أنه مغانم يكسبونها أو مصالح يحققونها، فإذا تعارض مع أهوائهم ومصالحهم تركوه، مثل هؤلاء لا يثبتون عند الفتن ويسقطون عند أول ابتلاء، كما قالت السورة عنهم: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ".

وقد ذكرت السورة أنواعاً من الفتن التي قد يتعرض لها المؤمن بسبب دينه ومنها:

• فتنة الوالدين إن أمرا بكفر أو شرك أو معصية " وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ".
• فتنة الأذى والتعذيب: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ".
• فتنة الضالين المضلين الذين يصدون عن سبيل الله ويزيّنون للناس اتباع الباطل: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ".
• فتنة إلقاء الشبهات ومجادلة أهل الباطل: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ".
• فتنة السراء والضراء: "فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ".

وقد سميت السورة بهذا الاسم لورود بيت العنكبوت فيها، وذلك في قوله تعالى: "مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ".

وهو مثلُ في هذه السورة يؤكد الله فيه أنّ كيد الكفار ومكرهم مهما عظم واشتد وطال، فإنه واهن ضعيف كبيت العنكبوت، وأما وجه الشبه بين من اتّخذ من دون الله أولياء يحتمي بهم وبيت العنكبوت، فهو أن العنكبوت يقضي وقتا طويلا في نسج خيوط بيته وكذلك أعداء الله يقضون الليل والنهار وهم ينسجون المكائد ويخططون لحرب هذا الدين فإنهم يستمرون على ذلك مهما طال بهم الزمن، ولكن الله لهم بالمرصاد، كما أن شكل بيت العنكبوت جميل ومتقن الأبعاد وكذلك كيد الكافرين يزينون للناس الباطل ليصدوا عن سبيل الله، وكذلك أن هذا الكيد والمكر مهما خدع الناس وطغى في الأرض فإن مصيره في النهاية إلى زوال وإلى فناء أمام غضب الله وانتقامه كما يسقط بيت العنكبوت بنفخة واحدة.

ولذلك ذكر الله في هذه السورة أمثلةً من أصناف العذاب التي حلّت بالأقوام السابقين لأنهم كفروا ولم يستجيبوا لدعوة أنبيائهم: "فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ".

ثم توضح السورة السبيل إلى اتقاء مكر الكافرين وكيدهم، مهما تجمّعوا ضد هذا الدين وأهله، والذي يتمثل في أمرين اثنين:

الأول: التفكر في خلق الله، الذي خلق السماوات والأرض، والذي بيده ملكهما وأمر من فيهما، عندها يستشعر المؤمن عظمة الله وقدرته وأن أعداءه هؤلاء لا يملكون من أمرهم ولا أمر غيرهم شيئا، قال تعالى: "خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ".

والثاني: الزاد الإيماني الذي يزيد يقين المؤمن، ويحثه على الثبات كقراءة القرآن وتدبّره والعمل به، وإقامة الصلاة حق إقامتها حتى تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر: "اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ".

وقد نزلت هذه السورة قبيل الهجرة إلى المدينة، لذا جاء الأمر فيها بالهجرة وذلك بالتلميح لا بالتصريح في قوله تعالى: "يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ".

وكأن الله يقول لهم... إن اشتد بكم الأذى والاستضعاف ولم تأمنوا على دينكم فليس أمامكم سوى الهجرة فأرض الله واسعة، ومن هنا تأتي مشروعية الهجرة من الأرض التي لا يأمن فيها المرء على دينه، أو لا يستطيع أن يقيم فيها شعائر دينه وعبادته.

ثم تعالج السورة الأسباب التي قد تقعد بالمسلم عن الهجرة من أجل دينه، فليس سهلاً على النفس أن تترك أرضها ووطنها وما ألفته فيها من أهل وذكريات، فضلاً عمّا له فيها من أموال وديار.

ومن هذه الأسباب:

• الخوف من الموت، وهنا تذكر الأيات أن الموت حق وهو قادم لا محالة على كل نفس قعدت أو هاجرت، شجعت أم جبنت، بل يصبّر المؤمن على خشيته من الموت حسن ظنه بما سيلقاه عند ربه من الجنات والنعيم: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ".

• الخوف على الرزق، فتؤكد الأيات أن رزقك أيها الانسان ورزق كل دابة مكفول: "وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" وقوله أيضا "اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".

• الخوف من المصير المجهول وضياع الأمن والاستقرار، فيضرب الله تعالى من خلال الآيات مثلاً بالأمن الذي جعله لأهل مكة، بعد حمايته لبيته الحرام من أبرهة وجيشه، وأن الناس من حول مكة كانوا يتخطفون ويُسلبون، فإذا دخلوا مكة صاروا آمنين.
"أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ" فالله وحده بيده أن ينزّل الأمن ويسلب الخوف.

ويأتي ختام السورة، ليؤكد ضرورة جهاد المؤمن، وصبره وثباته على دينه، وأن أجره على ذلك لن يضيع عند الله فيقول تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" وهو نفس المعنى الذي أكدته السورة في مطلعها: "وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ"، فكأن ملخص السورة يقول لك أيها المؤمن، إنك في درب الإيمان ستواجه الابتلاء والفتن، فاصبر واثبت على دينك، ولا يغرنك أو يخوفنك مكر الماكرين ولا كيد الكافرين، وتوكل على الله، واحتسب أجرك عنده فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

بين عقيدة الإسلام و”عقيدة الواقعية

للإسلام تفسيرٌ للواقع وتعاملٌ معه بناءً على علم الله به ومشيئته فيه، كما يثبتهما الوحي. …