علن سورة الأنبياء في بداياتها دعوة التوحيد وأنّها هي دعوة كل نبيّ ورسالة كل رسول، قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ".
ثم تعرض السورة دلائل ألوهيته ووحدانيته، وتفرّده تبارك وتعالى بالملك المطلق لهذا الكون، فله ملك السماوات والأرض، وكل ما فيها خاضع لأمره، مستسلم لحكمه "وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُون".
ثم تفصّل الآيات في خلق السماوات والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، كآيات شاهدات على قدرة الله في خلقه، وإبداعه في عظيم صُنعه "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ".
وتنكر السورة على أولئك المشركين آلهتهم المزعومة، وأنها لا تستحق المقام – مقام الألوهية والتوحيد – الذي لا يليق إلا بالله، والذي لو كان زعمهم صحيحا لفسد نظام السماوات والأرض واختلت موازين الكون: "أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ".
وبالحجة والمنطق تعود الآيات لتطلب منهم دليلا على صدق دعواهم في عبادتهم لآلههتم من دون الله: "أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ".
بل إن هذه الآلهة المزعومة لا تملك أن تنصر نفسها فضلاً عن أن تنفع أو تضرّ غيرها: "أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ".
وكيف تعبدونها من دون الله وهو الذي ينفعكم ويضركم، ويحفظكم بالليل والنهار وفي حادثات الأيام: "قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ" وإذا قضى أو حكم فلا معقّب لحكمه وأمره – سبحانه وتعالى: "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ".
ومن تمام وحدانيته أيضا – تبارك وتعالى – أنه واحدٌ ابتداءً فهو الأول ليس قبله شيء وأنه واحدٌ انتهاءً فهو الآخر ليس بعده شيء، وكل هذا الكون إلى زوال، وكل مخلوق غيره إلى فناء: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ".
ثم تعرض السورة مشاهد من قافلة الأنبياء الموحدين، الذين رفعوا راية التوحيد على مرّ التاريخ وعلى امتداد الزمان والمكان: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ".
فتضرب مثلاً بإمام الموحّدين إبراهيم – عليه السلام – وهو يحاجج قومه في عبادة الأصنام والأوثان التي عبدها أبوه وقومه من دون الله: "وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ *إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ".
ولأنه سبحانه المتصرف في هذا الكون، فهو يسخر ما فيه لنصرة عباده الموحّدين وأنبيائه المرسلين، فهو إن شاء أجرى الأسباب على نواميسها وإن شاء غيّرها، كما شاء حين جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم بعد أن ألقاه قومه فيها "قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ "
وكما سخر الريح لسليمان عليه السلام: "وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ".
وكما وهب لزكريا عليه السلام الولد رغم كبر سنّه وعقم زوجه: "وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ".
وكما أمر الحوت أن يبتلع يونس عليه السلام دون أن يهلكه، ولما دعا ربّه أنجاه: "وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ".
وحين دعا يونس عليه السلام ربّه كانت دعوته مستهلة بما حوت من إخلاص التوحيد: "لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ " ثم اعتراف بالخطأ في تذلل وخضوع:" إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ" فكانت الإجابة سريعة " فاستجبنا له " وكانت الاجابة له ولكل من دعا بهذه الدعوة من المؤمنين إلى يوم الدين "وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ".
وكما جاء في الحديث الصحيح عن سعد بن أبي وقَّاص قال: قال رسولُ الله: (دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظَّالمين، فإنَّه لم يدع بها رجلٌ مسلمٌ في شيءٍ قطّ إلا استجاب اللهُ له).
كل ذلك ليعلم المؤمن أنه إنْ إخلص التوحيد لله، كان الله معه يرعاه، ويسخّر الأسباب لحفظه ونصرته، وليطمئن قلبه ويثق بحتمية انتصار التوحيد على الشرك، وغلبة الحق على الباطل: "بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ".
كما تعرض السورة صورتين متقابلتين، الأولى تصوّر جزاء المشركين المعرضين عن التوحيد، ومشاهد العذاب التي تنتظرهم، والثانية تصوّر جزاء المؤمنين الموحدين بالنجاة والفوز بالجنّات.
ولقد تميّزت سورة الأنبياء بعرض مشاهد القيامة بصورة حسية حتى لكأنّك تراها رأي العين، فهاهي السماء تُطوى، ويتبدّل خلقها إلى خلق آخر ليُبعث الناس في ساحة الحشر:" يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ".
وترى الذين كفروا تشخص أبصارهم، خاضعة ذليلة، لما يغشاها من الخوف والفزع:" وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ".
وترى الموازين تُنصب، والأعمال تُحسب، ولا ظلم يكون ولو بمثقال ذرّة: "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ".
ويغشى العذاب الكافرين، وتراهم وكأنّ النار قد أحاطت بهم من كل جانب، وهم يدفعونها عن أنفسهم ولا يستطيعون: "لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ" ثم يُعذّبون فيها بل يصيرون حطباً ووقوداً لها، هم وآلهتهم التي عبدوها من دون الله " إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ".
ثم تأتي الصورة المقابلة عن جزاء المؤمنين الموحّدين، فتكون لهم النجاة، فهم عن النار مبعدون، ومن الفزع يومئذ آمنون: "إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ".
ثم يأتي ختام السورة ليؤكد أن العاقبة للمتقين الموحدّين مهما طال الطريق وعظم البلاء: "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ".
وأن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم التي خُتمت بها الدعوات والرسالات كانت أيضا دعوة التوحيد كمن سبقه من الأنبياء والرسل: "قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ "
ولتستمر رحى الصراع بين التوحيد وجنده والشرك وأهله، حتى يقضي الله ما شاء من نجاة الموحدّين وهلاك المشركين: "فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ * إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ".
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العامين