الندم على تقصير فات أوان تداركه

الرئيسية » خواطر تربوية » الندم على تقصير فات أوان تداركه
muslim

الندم على تقصيرٍ فات أوان تداركه مما تعمّ به البلوى وتشتد به الأزمة النفسية. ذلك أنّ فسحة التدارك والتعويض من العوامل الأساسية في توجيه مشاعر الندم التوجيه الصحيح، وإلا توطّنت في نفس صاحبها وجعلته يتآكل من الداخل. وأشهر صور ذلك النوع من التفريط ما يتعلق بحقوق أشخاص توفّاهم الله تعالى ولم يعد لاستسماحهم سبيل، كعقوق والد أو شهادة زور أو غيبة أو أكل مال أو غير ذلك.

إلا أنّ شرع الله تعالى واضح في أن باب التوبة مفتوح لأي عبد أذنب أي ذنب، ما دام على قيد الحياة ولم يصل حدّ الغرغرة. فكيف الجمع بين فوات أوان التدارك من جهة وانفتاح أوان التوبة من الجهة الأخرى؟!

فسحة التدارك والتعويض من العوامل الأساسية في توجيه مشاعر الندم التوجيه الصحيح، وإلا توطّنت في نفس صاحبها وجعلته يتآكل من الداخل

بداية، عقوبة التفريط في حقوق العباد لها جهتان:

- جهة الله تبارك وتعالى: أي من حيث معصيته وعدم امتثال ما أمر به من أداء الحقوق لأهلها، فهذه عسى ربي يتجاوز عنها باتباع أمره تعالى كما سيلي بيناه.

- والجهة الثانية: متعلقة بمسامحة الشخص الذي فرَّطتَ في حقه لك؛ فهذه عِلمها عند الله تعالى، وتتضح لك يوم الحساب واقتصاص المظالم. (وثمّة احتمال أن يكون صاحبها قد سامحك بينه وبين نفسه قبل أن يتوفّاه الله).

ثانيًا، التعامل العملي مع تلك المواقف ينقسم لشِقّيْن:

- الشِق الأول متعلق بالماضي وما كان: فهذا لا حيلة فيه إلا أن يستعين العبد بالله على ما يجد من مشاعر الحزن والندم، ويتشاغل بالشق الثاني.

- الشق الثاني وهو الحاضر: وهذا لا بدّ فيه من ثلاثة أعمال:
o إكثار وتكرار التوبة والاستغفار على المستوى الشخصي.
o العلم بحكم الشرع في نوع الحق الذي فرّط فيه فلعل ثمة سبيل لردّه لورثة صاحب الحق مثلًا.
o السعي في مختلف أعمال البر التي يصل ثوابها لذلك المُتوفّى، كختم القرآن والدعاء والاستغفار له والصدقة العامة والجارية والحج عنه... إلخ.

لكنّ الحاصل أنّ كثيرًا من العباد يُسلِمون أنفسهم للإغراق في الشّق الأول الذي لم يعد له حلّ ولا حيلة، إغراقًا يعميهم عن الشقّ الثاني أو يصوّر لهم أنه لا جدوى منه! فهذا اللبس بين الجهتين وعدم فصل الملفات هو الذي يخلق الإشكال الحقيقي والعقدة الأزليّة. كيف ذلك؟

- أوّلًا: لا بد أن يعي العبد أن الشيطان يحب أن يَحزُن قلب المؤمن ويغمّه ليُثقله ويُقعده عن التدارك ، بل ويتمادى في بث خواطر السوء في نفسه فيُخَيِّلَ له أن باب التوبة قد أغلق دونه وما عاد ينفعه أي عمل صالح، ويفتح عليه في المقابل باب تفريط شامل يتراكم أثره الأسود على المدى في نفس صاحبه حتى يقتنع أخيرًا أنه خارج الملة وأنه مغضوب عليه عند الله وأنه خالد في النار... بل قد يصل التمادي للسخط على جهة الرب تبارك وتعالى بلوم العناية الإلهية التي خذلته والتوفيق الذي حُرِمَه... وهكذا حتى يتفاقم الأمر للسخط على مبدأ الدين والحساب والامتحان الوجودي بما يدفع للكفر الجاحد بالله تعالى، سواء كان كفرًا حقيقيًّا يخرج به صاحبه من المِلّة، أو كفرانًا معنويًا يدفع صاحبه لترك الالتزام بها بالكلية والإغراق في اتباع الهوى وارتكاب مزيد من الذنوب والمعاصي حتى الكبائر التي منها كبيرة الانتحار.

- ثانيًا: لا بدّ أن يعتقد العبد يقينًا ويستحضر صدقًا ما فتحه الله للعبد من باب واسع لا يغلق دونه أبدًا مهما فعل ما دام على قيد الحياة، وهو باب التوبة والأوبة وإتباع السيئة الحسنة لتمحوها، كما أخبرنا الله ورسوله. وتذبذب العبد في التوبة وانجرافه للإغراق في الندم القانط من رحمة الله وعفوه علامتان أكيدتان على خلل في مدى تصديقه لله ورسوله واختلال في رسوخ عقيدته. إذ تأمل كيف بدأ الندم بالشعور بالتقصير في جنب الله تعالى (وهذا مما يرضاه الله تعالى ويحبه من العبد ويفتح له به باب عفوه إذا طلبه)، وكيف انتهى للسخط والكفر به تعالى (وهذا قطعًا لا يقبله الله من العبد ولا يعفو عنه إذا مات عليه)! فالسر في الطريق الذي يسلكه القلب النادم: إما أنه يتبع المنحى الذي شرعه الله له ويرتضيه منه ويعينه عليه، أو أنه يتبع المنحى المخالف له.

لا بدّ أن يعتقد العبد يقينًا ويستحضر صدقًا ما فتحه الله للعبد من باب واسع لا يغلق دونه أبدًا مهما فعل ما دام على قيد الحياة

لذلك فالفيصل بين الندم الذي يُتعبّد لله به وذاك الذي ليس إلا في حقيقته اتباعًا للهوى، هو اتباع أمر الله تعالى في التعامل معه، وتغليب تصديقك لبلاغ الله ورسوله على عبث الشيطان والهوى وخواطر السوء. والله تعالى لم يتعبّدنا بالحزن والأسى واليأس والاكتئاب (بدليل أن الانغماس فيهم يبدعنا عنه سبحانه)، بل تعبّدنا بالصبر والاستعانة واحتساب الثواب فيما نعانيه من أوجاع وآلام والتوبة مما نقع فيه من زلات وذنوب (وهذا يقرّبنا منه سبحانه)، تمامًا كما نحتسب الثواب في نقوم به من طاعات ونحمده على ما نوفّق له من إحسان واستقامة. ولعل الله تعالى يطلع على ما في قلبك من انكسار وألم وندم صادق، فيكون خيرًا لك من العُجب بنفسك إذا كنتَ أدّيت الحق لصاحبه في حياته.

- ثالثًا: عدم توفيق العبد لطاعة ما سببه الأساس غفلة العبد عن ربه واستهتاره بمدى حاجته لحفظ الله له، فيخلّي الله بين العبد والذنب. ثم إذا أراد الله بالعبد خيرًا أيقظ فيه شعور الذنب ووجع التفريط -وهذا في حد ذاته دليل على حياة القلب- فيكون له من ذلك باب للفرج وسبب لليقظة ودافع للتدارك والاستقامة على أمر الله حتى يقبضه الله على خير. وهكذا ينقلب ذنب مفتاحًا لطاعة، ويتضح أن ما يبدو لنا أنه عدم توفيق لم يكن إلا عين التوفيق والعناية الإلهية، لكن فقط لِمَن يحسن الفهم عن ربه ويتأدب معه فيتعامل مع مختلف أطوار نفسه وتقلبات شعوره وعواقب أخطائه على النحو الذي بيّنه لنا ربّنا تعالى في شرعه، فلا يغلق بابًا فتحه الله ولا يتألّى على الله بأنه لن يغفر له ولن يتقبل منه مهما فعل.

عدم توفيق العبد لطاعة ما سببه الأساس غفلة العبد عن ربه واستهتاره بمدى حاجته لحفظ الله له، فيخلّي الله بين العبد والذنب

وفيما يلي مراجع نافعة في التعامل مع الذنوب وفترات الحزن والانكسار:

- فوائد الذنوب، من كتاب "الجواب الكافي" لابن القيّم.

- شرح حديث "قاتل المائة"، في شرح النووي على مسلم، أو شرح فتح الباري على البخاري

- تفاسير قول الله تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ" [الزمر: 53] ؛ "ربكم أعلم بما في نفوسكم" [الإسراء: 25] ؛ "اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [المائدة: 89].

- لكل مذنب _ لا تخرج نفسك من الملة بسهولة

- احترم نفسك وقيمتك الأكيدة في الوجود

- كتاب الأسئلة الأربعة لضبط بوصلتك في الحياة

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …