كعادته يبهرك الإمام القرضاوي - حفظه الله ورعاه - بنتاجه الفكري ونشاطه الفقهي وحرقته الدعوية، وهذه المرة مع كتاب وقعت يدي عليه من إحدى المكتبات ودور النشر، بعنوان (فقه الأسرة وقضايا المرأة)..
يقع الكتاب في 655 صفحة من القطع الكبير، إلا أن اللغة العذبة والأنيقة التي يكتب بها الإمام قادرة على جذب انتباهك من اللحظة الأولى حين تقليبك للكتاب حتى نهايتك منه، فطريقة الكتابة العلمية رصينة، تبدأ بذكر الكليات أولاً والعناوين الرئيسة ثم تفرعاتها المهمة ثم متشابهاتها وفوارقها، وصولا لأدق المسائل وأحدثها زمانًا وظروفًا، ومَنْ أكثر من المطالعة في كتب القرضاوي يعلم ذلك جيدا.
العجيب أن الإمام القرضاوي - حفظه الله ورعاه - قد انتهى من رص حروف مقدمته بتاريخ 19/7/2016م، أي عند إتمامه السنة التسعين من عمره، وما زال - حفظه الله - يكتب بتسلسل علمي مميز، يدلل على حفظ الله ورعايته لملكاته العقلية ومكانته المعرفية، أسأل الله أن يتم عليه عافيته ويتقبل جهده...
في مقدمة الكتاب، وبعد حديثه المتسلسل عن الكرامة الوجودية للإنسان، والتي من مظاهرها "قدرة الإنسان على تشكيل عائلة منسجمة مع الفطرة والعقل والوجدان" ، ومناقشته لأفكار وشذوذ الأفّاقين من الملاحدة ودعاة العلمانية والعري والتفسّخ والشذوذ، قال: (والأسرة عند الغربيين أسرة محدودة ضيّقة، تقوم على الزوجين، أو الأبوين والأولاد، فإذا كبروا استقلوا بأنفسهم عن آبائهم وامهاتهم) (أما بقية الأسرة فلا اهتمام لهم بها، ولا سعي في حل مشكلاتها)، بينما (الأسرة في الإسلام هي الأسرة الموسعة الممتدة، التي تعتز بكل الصلات النسبية والرحمية والتصاهرية، حتى الرضاع، جعل الإسلام له حقا، وخصص له أحكامًا)، (فقد ربط الله تعالى بالاسرة أحكاما هي أبواب شتى من الفقه، من شأنها أن توثق صلة الأسرة بعضها ببعض) ..
وأوضح فضيلته منهجية بحثه فقال (ننظر في الأدلة : كلية وجزئية، وما يستدل به الفقهاء من قواعد وأحكام وحكم، ونأخذ ما استطعنا بأقواها دليلا، وأوضحها سبيلا، بحسب ما يتراءى لنا)، ولا أنس أن منهج الوسطية التي رسخ مدرستها عبر أكثر من نصف قرن، وكذلك الغوص في مقاصد الأحكام وعللها كان حاضرا تماما، مستذكرا ما ورد في الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا) ...
مع الكتاب
قسّم فضيلته هذا السفر المميز إلى خمسة فصول:
(1) الفصل الأول: تحدث فيه عن الزواج، فلسفته ومقاصده الشرعية، ومقدماته من حسن الاختيار والخطبة، وصولا لأركان عقده وشروطه، ومن يحل بالزواج منها ممن لا يحل، وناقش تفصيلا العديد من القضايا المعاصرة، وتناول بعدها الحقوق العامة بين الزوجين...
(2) الفصل الثاني: تحدث حول كيفية انقضاء الزوجية وعدة المرأة، من أحكام الطلاق أو الإيلاء أو الظهار أو حتى ما يسمى بـ "التطليق للضرر" والفسخ و"التطليق للفقد"، في نقاشات منطقية وتلمّس لحاجات الواقع ...
(3) الفصل الثالث: تحدث فيه عن حقوق الأقرباء، ابتداء من بر الوالدين وإنفاذ وصيتهما من بعدهما، وكذلك حقوق الأولاد وما يترتب عليها من أحكام، وصولا إلى صلة الأرحام ...
(4) الفصل الرابع: تحدث فيه عن أحكام الميراث، فلسفتها في الإسلام، وتطبيقاتها العملية، والرد على مختلف الشبهات التي أثارها بعض الغربيين ومفكريهم حولها...
(5) الفصل الخامس: تحدث فيه عن المرأة وقضاياها المعاصرة، ضمن النظرة الشرعية والنقاش الفلسفي والدفاع المنطقي والحرص الدعوي.
حريّ بكل مسلم (وخاصة من يستعد الآن أن يدخل بيت الزوجية) أن يقتني هذا الكتاب في بيته، ليطالعه هو وعائلته ويتعرف على جملة الأحكام الفقهية الواجب اتباعها مع الزوجة والأولاد والأقارب والجيران والأصدقاء، فما يحصل الآن من تفسّخات مجتمعية سببها "عدم الوقوف على حرمات الله وحدوده"، إما بدعوى الجهل وقلة المعرفة، أو بدعوى الظلم والعناد واتباع الهوى، وصدق ربي حين قال: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون} [الجاثية:23].
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتقبل من الإمام القرضاوي هذا الجهد الكبير، ويجعل ذلك في ميزان حسناته، وأن يعيننا على ثني الركب في الإقبال على العلم والتعلم، (فمن يرد الله به خيرا : يفقهه في الدين) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .