سمعنا كثيراً عمَّا يُقال عنها "ليلة العُمر"، وقد وصفها الواصفون، وتغنى بها الحالمون، وتاق إليها المُحبون، وهام من أجلها العاشقون... فهل سمعت من قبل عن يوم العمر!
إن يوم العمر هو ذلك اليوم الذي يُبشَّر فيه المرء بالقبول، يوم أن يعلم أن الله تعالى قد تقبَّل منه، وغفر له، ورضي عنه، وكتب له سعادة لا يشقى بعدها أبداً.
جاء في كتاب (الزهد) للإمام أحمد رحمه الله أن المسيح عليه السلام قال للحواريين: (إنكم لن تلجوا ملكوت السموات حتى تولدوا مرتين).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "الولادة نوعان. أحدهما: هذه المعروفة. والثانية: ولادة القلب والروح وخروجهما من مشيمة النفس وظلمة الطبع" اهـ.
إن الميلاد الثاني يتم حين يعرف المرء ربه حق المعرفة، فينسلخ من جواذب المادة والطبيعة ويرتقي روحانياً للمهمة التي من أجلها خلق، وهنا يكون الرضا والطمأنينة وتكون السعادة الأبدية.
إن الميلاد الثاني يتم حين يعرف المرء ربه حق المعرفة، فينسلخ من جواذب المادة والطبيعة ويرتقي روحانياً للمهمة التي من أجلها خلق، وهنا يكون الرضا والطمأنينة وتكون السعادة الأبدية
إن الميلاد الثاني لا يتقيد بعمر، فقد يولد الإنسان ميلاده الجديد مع ميلاد بدنه، وقد يولد هذا الميلاد في شبابه، أو في كهولته، أو قبل أن تبلغ الروح الحلقوم.
إن الميلاد الثاني لا يتقيد بمكان، فقد يولد الإنسان ميلاده الجديد في المسجد، أو في الشارع، أو في البيت، أو إذا هم بارتكاب معصية، أو والمرء على فراش الموت قبل أن يُغرغر.
إن الميلاد الثاني ليس له سبب مُعين، فقد يرى الإنسان من المواقف ما تذوب من هولها الجبال وهو جاحد لا يتوب، وقد يتفكر الإنسان لبرهة تنقلب بها موازين حياته ويعود إلى رشده وصوابه.
بين يدي الموضوع
* إن يوم العمر لنبي الله يوسف كان ذلك اليوم الذي وقف فيه في وجه امرأة العزيز قائلاً لها: "مَعَاذَ اللَّهِ".
* ويوم العمر لأنبياء الله (نوح، أيوب، يونس، زكريا) عليهم جميعاً من الله السلام، يوم أن دعا أحدهم ربه وجاءه الرد الفوري العاجل المسبوق بـ "فاء السرعة" من الله تعالى: "فَاسْتَجَبْنَا لَهُ"، وورد ذلك في "سورة الأنبياء" التي أطلق عليها العلماء اسم "سورة الاستجابة".
- والمقام لا يتسع هنا لذكر ما ورد في حق كل الأنبياء والمرسلين عليهم من الله جميعا السلام، فيوم عمر كل واحد منهم يوم أن اصطفاه الله تعالى وثبته على ذلك حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة.
يوم العمر بالنسبة لبعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين
- إن يوم العمر لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، يوم أن أنزل الله تعالى فيه قرآن يتعبد الناس بتلاوته إلى يوم القيامة، وهو قوله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ (21)} [الليل: 19-21].
- ويوم العمر لأبي بكر الصديق رضي الله عنه أيضاً، يوم أن قال النبي ﷺ: " لو كُنْتُ متَّخِذًا خليلًا لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ خليلًا .." (صحيح ابن حبان).
- ويوم العمر لأبي بكر الصديق رضي الله عنه كذلك، يوم أن قيل للنبي ﷺ: "يا رسولَ اللهِ، مَن أحَبُّ النَّاسِ إليكَ؟ قال: عائشةُ، قيل: مِن الرِّجالِ؟ قال: أبوها" (سنن الترمذي).
- ويوم العمر للفاروق عمر رضي الله عنه يوم أن قال له النبي ﷺ :" إيهٍ يا ابنَ الخطابِ! والذي نَفْسِي بيدِهِ ما لقِيَكَ الشيطانُ قطُّ سالكًا فجًّا؛ إلَّا سلَكَ فجًّا غيْرَ فَجِّكَ" (صحيح الجامع).
- ويوم العمر لذو النورين رضي الله عنه يوم أن قال له النبي ﷺ: "ما ضرَّ عثمانَ ما عَمِلَ بعدَ اليومِ" (سنن الترمذي).
- ويوم العمر للإمام علي رضي الله عنه يوم أن قال النبي ﷺ يوم خيبر:" لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُفْتَحُ علَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَهُ، ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسولُهُ" (صحيح البخاري).
- ويوم العمر للإمام علي وجعفر وزيد رضي الله عنهم كان في هذا الموقف.
* عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "أتيتُ النبيَّ ﷺ وجعفرٌ وزيدٌ قال: فقال لزيدٍ: أنت مولايَ فخجِل قال: وقال لجعفرٍ: أنت أشبهتَ خَلْقي وخُلُقي قال: فخجِل وراءَ زيدٍ قال: وقال لي: أنت مني وأنا منك فخجِلتُ وراءَ جعفرٍ" (مسند أحمد).
- ويوم العمر لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يوم أن برأها الله تعالى من الإفك وأنزل بذلك قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، وهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11].
- ويوم العمر لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أيضاً، يوم أن قال النبي ﷺ :"فَضْلُ عائِشَةَ علَى النِّساءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ علَى سائِرِ الطَّعامِ" (صحيح البخاري).
- ويوم العمر لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كذلك، يوم أن دعا لها النبي ﷺ وقال:" اللَّهمَّ اغفِرْ لِعائشةَ ما تقدَّم مِن ذنبِها وما تأخَّر ما أسرَّتْ وما أعلَنَتْ" (صحيح ابن حبان).
- ويوم العمر لبلال بن رباح رضي الله عنه يوم أن سأله النبي ﷺ: "يا بلَالُ حَدِّثْنِي بأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ في الإسْلَامِ، فإنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بيْنَ يَدَيَّ في الجَنَّةِ" (صحيح البخاري).
* وهكذا كان الحال لباقي العشرة المبشرين بالجنة.
- ويوم العمر لمعاذ بن جبل رضي الله عنه يوم أن قال له النبي ﷺ :" يا مُعاذُ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّكَ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّك" (سنن أبي داود).
- ويوم العمر لعبد الله بن عباس رضي الله عنه يوم أن ضمه النبي ﷺ إليه ودعا له قائلاً: "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتابَ" (صحيح البخاري).
- ويوم العمر لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يوم أن قال النبي ﷺ يوم أحد:" ارمِ سعدٌ فِداك أبي وأُمِّي" (سنن ابن ماجه).
- ويوم العمر لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه يوم أن قال له النبي ﷺ: " لو رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ البَارِحَةَ، لقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِن مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ" (صحيح مسلم).
- ويوم العمر لطلحة رضي الله عنه كان يوم غزوة أحد حين أراد النبي ﷺ أن ينهض على صخرة فلم يستطع لأنه ﷺ كان عليه درعين، فما كان من طلحة رضي الله عنه إلى أن برك على ركبتيه فصعد النبيُّ ﷺ حتى استوى على الصخرةِ وسمع طلحة النبي ﷺ يقولُ: "أَوْجَبَ طلحةُ" (سنن الترمذي)، أي: عَمِل عَمَلاً أَوْجَبَ له الجنةَ.
- ويوم العمر للصحابة الذين حضروا بيعة الرضوان، هو يوم أن نزل فيهم قوله تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} {الفتح: 18}.
- ويوم العمر للمهاجرين والأنصار يوم أن أنزل الله تعالى فيهم قرآناً يتعبد بتلاوته إلى يوم القيامة، وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:74].
- ويوم العمر للأنصار رضي الله عنهم خاصة، يوم أن قال النبي ﷺ في حقهم: "لو سلَك النَّاسُ واديًا وسلَكتِ الأنصارُ شِعبًا لَأخَذْتُ شِعْبَ الأنصارِ" (صحيح ابن حبان).
- ويوم العمر للصحابة الذين شهدوا غزوة بدر يوم أن قال النبي ﷺ في حقهم: "إنَّ اللهَ تعالى اطَّلَعَ على أهْلِ بَدْرٍ، فقال: اعْملُوا ما شِئْتُمْ فقدْ غَفرْتُ لَكُمْ" (صحيح الجامع).
- ويوم العمر لمن شارك في حفر الخندق هو حين بشَّرَهم النبي ﷺ بفتح الفرس والروم وحِمْيَر "باليمن"، وهم في حال يُرثى له من الجهد والنصب، ويخشى أحدهم أن يذهب إلى الخلاء وحده. وفي نفس المقام يدعو النبي ﷺ ويقول: "اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إلَّا عَيْشُ الآخِرَهْ... فأكْرِمِ الأنْصارَ والْمُهاجِرَهْ" (صحيح مسلم).
- ويوم العمر لعموم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، يوم أن قال النبي ﷺ: "لا تَسُبُّوا أصْحابِي، فلوْ أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ، ذَهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ، ولا نَصِيفَهُ" (صحيح البخاري).
- ويوم العمر للثلاثة الذين خلفوا، يوم أن عفا الله تعالى عنهم وأنزل بذلك قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، وهو قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118].
- ويوم العمر بالنسبة للإسلام في مكة كان بعد أن أسلم حمزة وعمر رضي الله عنهما وقرر المسلمون الخروج إلى الكعبة ليعلنوا الإسلام على الملأ.
قال ابن إسحاق في السيرة النبوية: "قال عمر عند ذلك: والله لنحن بالإسلام أحق أن ننادي... فليظهرن بمكة دين الله، فإن أراد قومنا بغياً علينا ناجزناهم، وإن قومنا أنصفونا قبلنا منهم، فخرج عمر وأصحابه، فجلسوا في المسجد، فلما رأت قريش إسلام عمر سقط في أيديهم" اهـ.
قال ابن مسعود رصي الله عنه: "إن إسلام عمر كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنَّا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه".
وأخيراً أقول
ليسأل كل واحد منا نفسه هل أدرك يوم العمر أم لا! وبأي عمل أدركه، وبأرجى عمل أدركه؟
إن الرجل الذي أماط الشوك عن طريق الناس، لم يكن يعلم أنه يوم العمر بالنسبة له.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: "مَرَّ رجُلٌ مِنَ المسلمينَ بجِذْلِ شَوْكٍ في الطريقِ، فقالَ: لَأُميطَنَّ هذا الشوكَ عَنِ الطريقِ ألَّا يَعقِرَ رجُلًا مُسلِمًا، قال: فغُفِرَ له" (رواه أحمد).
وتلك المرأة البغي لم تكن تتوقع أن يكون يوم العمر بالنسبة لها هو ذلك اليوم الذي سقت فيه كلباً أرهقه العطش.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "بيْنَما كَلْبٌ يُطِيفُ برَكِيَّةٍ، كادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِن بَغايا بَنِي إسْرائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَها (خفها) فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لها بهِ" (صحيح البخاري).
ولم يكن الثلاثة الذين انْحدَرتْ عليهم صخرةٌ من الجبلِ، فسدَّتْ عليهم الغارَ يعلموا أن طوق نجاتهم من هذا الكرب العظيم هو أن يدعوا الله بصالحِ أعمالِهم، وأن يوم عمر أحدهم كان حين فعل عمله الصالح الذي تذكره في هذا الموقفودعا الله به!
وأقول
فتش في نفسك واقدح زناد فكرك لتتذكر لك عملاً عملته مُخلصاً مُخبتاً راجياً، فإن وجدت ضالتك فادعو الله أن تكون هي وعض عليها بالنواجذ وزد منها ومن غيرها، وإن كانت الأخرى، وأعيذك بالله من ذلك، فشمِّر عن ساعد الخير وخض لجج الطاعات واجعل شعارك "لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ" يوم العُمر..