ما أن تشرع في قراءة سورة القصص... حتى تنتابك مشاعر الخوف، فعلى امتداد السورة أحداثٌ جسام وخطوبٌ وأهوال، تحكي نشأة سيدنا موسى عليه السلام منذ ولادته حتى صار نبيّا، ولعل ذلك هو السبب في تسميتها بسورة القصص، فما ورد على شكل قصص متفرقة عن حياة موسى عليه السلام في سور شتى جُمع هنا لينظم قصة متكاملة مفصّلة عن حياة هذا النبي العظيم منذ نشأته إلى أن مكّنه الله من فرعون فأزال الله به ملكه وأورثه ومن آمن معه الأرض.
هذه هي حكاية السورة، منذ مطلعها تشعر عند قراءتها بشعورين متناقضين، شعور الخوف من بطش فرعون وجبروته، ثم شعور التفاؤل والأمل بنصر الله، فأما شعور الخوف ففي قوله تعالى: "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" (آية -4).
وأما شعور الأمل ففي قوله تعالى: "وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ" (آية 5-6).
والعجيب أن الأيات جاءت متتابعة ليس بينها فاصل، والأصل في القصص أن تكون الخاتمة متأخّرة، وكأن الله يقول لنا أنّ ما بين بطش الظالمين وانتقام الله منهم شيء يسير من الزمن وأن ذلك ليس ببعيد وما هو على الله بعزيز.
إن السورة منذ بدايتها تملأ النفس يقيناً بنصر الله ووعده بتمكين عباده المؤمنين في الأرض إنْ هم قاموا بما يجب عليهم لاستحقاق هذا النصر.
والأعجب من ذلك أن هلاك فرعون جاء على يد طفل رضيع كان مهدَّداً بالهلاك والغرق حين قذفته أمه باليمّ، وتقاذفته الأمواج لتذهب به إلى قصر من سيكون عدوه -فرعون– بل ويتربّى في بلاطه وعلى عينه لتكون نهايته على يديه كمن يرسم مصيره المشؤوم بيديه.
إنك لو قلت لرجل عاش في ذلك الزمان أنّ هناك جيشاً عظيماً يستعدّ لقتال فرعون وجنده، وأنه سيهزمه ويزيل ملكه، لسخر منك، فكيف سيصدّق أن هلاكه سيكون على يد طفل رضيع كان مجهول المصير ولا قوة له ولا نصير!
إنه تدبير الله، كيف يخرج المنحة من المحنة، ويهيء الأسباب –حيث لا تراها- لتكون النتائج كما أراد لها –سبحانه وتعالى- .
وينقلك السياق في السورة، من خوف إلى خوف، كخوف أمّ موسى على طفلها الرضيع: "وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ" (آية –7).
ثم خوف أخته عليه أن تتفاذفه الأمواج: "وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ" (آية – 11).
ولكنه تقدير الله تعالى بحفظ نبيّه: "وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (آية 12-13).
ثم يأتي خوف موسى حين قتل القبطي، وخشي على نفسه من جنود فرعون، فخرج من المدينة خائفا أيضا لا يدري أين الوجهة أو المسير: "فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (آية 21).
ثم خوفه تارة أخرى حين صار نبيّا، وأمره ربّه أن يرجع إلى مواجهة فرعون: "قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ" (آية 33-34).
وبعد هذا العرض المتزاحم من مشاعر الخوف في حياة موسى –عليه السلام- يأتي الفرج، ويتحقّق وعد الله بهلاك فرعون: "وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ" (آية 39-42).
هكذا تنتهي قصة فرعون ويسدل عليها الستار، كل ذلك كي لا يخاف الدعاة ولا يحزنوا أو ييأسوا، فمهما علا أهل الباطل ومكروا في الأرض فإن الله حافظٌ دينه وناصرٌ جنده.
وعلى امتداد السورة وبعد مشاعر الخوف هذه يأتي السياق ليبث مشاعر الأمل والثقة بنصر الله ففي أوّلها كان امتنان الله على المستضعفين بالتمكين، وفي وسطها تقرآ قوله تعالى: "وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ" (آية 58-59).
وفي آخرها تقرأ مصير قارون الذي كان نموذج طغيان المال، بعد أن عرضت مصير فرعون والذي كان نموذج طغيان الملك: "فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ" (آية 81).
ويؤكد آخر السورة كذلك على صفات جيل التمكين ومَنْ سيكونون أهلاً للنصر المبين في قوله تعالى: "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" (آية 83).
ومن اللافت في هذه السورة أنها نزلت على النبي – صلى الله عليه وسلم – في مكة بعد موت عمّه أبي طالب، وكأن فيها جبراً لخاطر النبي وتسلية عنه، فها هو يقول له ربّه أن لا يحزن على موت عمّه كافرا فالهداية من الله وليست بيدك أو بين أحد من الناس: "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (آية 56).
كما أن فيها تعزية من الله للنبي بموت عمّه، وأنّ الكل راجع إليه: "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" (آية -88).
وكي تتلاشى مشاعر الحزن والخوف وتتبدّد تماما، تأتي البشارة من الله لنبيّه الكريم محمد بالعودة إلى مكة وأن يمكّن الله له فيها كما مُكّن لموسى من قبل: "إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" (آية 85).
وهكذا... وبين الاستضعاف والتمكين، والخوف والأمل يعيش المؤمن معتزّا بدينه، واثقاً بربّه لا يضعف أو يتسرّب اليأس إليه، بل يمضي داعيا إلى الله لأنه يعلم أن الأمور تسير بقدره وتدبيره: "وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إلى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ".
هذا والله أعلم