ما مِن شَكٍّ؛ فأنَّ اتِّباع التطور في شتى العلوم ومجالات التطوُّر الحضاري بشكلٍ عام، هو مِن سُنَنِ العمران التي وضعها اللهُ تعالى في خَلقِه، وليس أدلَّ على ذلك من انقراض الحيوانات والمخلوقات التي عجزت عن التطوُّر وموائمة الظروف المناخية المُستَجَدَّة، وفق قانون ربَّاني أصيلٍ، شاء الخالق سبحانه وتعالى أنْ يكون هو سبَبَهُ لاستمرارَ الدُّنيا حتى يشاء اللهُ، وينهيها.
ومن سِمَات الحضارات الأصيلة، هو ظاهرة الأواني المُستَطرقة في المكتشفات الجديدة؛ حيث تنساح تطبيقاتها في كل مجال تصلحُ له.
فعندما استطاع الإنسان السيطرة على النار، قام بتوجيهها إلى مجالات عِدَّة؛ طهو الطعام والتدفئة والأمن، وغير ذلك.
وهذه السُّنَّة أو السِّمَة؛ تنطبق على وسائل التقنية الحديثة؛ حيث نجد ألف تطبيق للمُبْتَكَر الواحد في المجالات الرقمية.
وبطبيعة الحال، كان أولى المبتكرات بذلك، الارتباط العضوي الذي تم بين وسائط الاتصالات والمعلومات الرقمية، وبين مجالات العلم والثقافة المختلفة.
فهذه المُبتَكَرَات، بمختلف صنوفها؛ وسائط التخزين، والهواتف المحمولة، والحواسيب النقَّالة، والإنترنت، وغيرها؛ تتصل في صُلْب عملها بأمرَيْن؛ حفظ ونقل المعلومات، وتحسين الاتصال بين البشر، والأولى هي من أهم الأمور المرتبطة بالتحصيل العلمي والثقافي.
ولذلك كان مِن الطبيعي أنْ تقف أمام توسُّع كبير في تطبيق وتوظيف هذه التقنيات في مجالات التعليم وتنمية المهارات لدى الأطفال.
وبالفعل، حقَّقت التطبيقات المرتبطة بهذه التقنيات في تلك المجالات، نجاحات كبيرة، فيما تم توظيفها لأجله، مثل تحسين قدرات الأطفال الذهنية وتوسيع مداركهم، لاسيما مع ربط الأدوات الصُّلبة – الأجهزة – بالفضاء السايبراني، وانفتاح الناشئة والمراهقين على ثقافات المجتمعات الأخرى، وطرائق التعلُّم والتثقيف الذاتي فيها.
ولكن، وكما هو مرتبط بكل ما شيء في هذا الكون كما شاءت حكمة الخالق عزَّ وجلَّ؛ لم يخلُ الأمر مِن آثارٍ سلبيةٍ؛ حيث قادت هذه الوسائط في تطبيقاتها في مجال التعليم، إلى انبتات صلة الطفل والناشئة بالوسيط الورقي على أهميته وقيمته الكبرى في مجال التعليم وتنمية القدرات الذهنية والمعلوماتية للطفل.
وهذا القول بأهمية الوسيط الورقي؛ هو ليس مِن قبيل النوستالجيا أو الحنين إلى الماضي؛ حيث إنَّ هناك أصلاً علميًّا مهمًّا يجعل للوسيط الورقي في أيِّ مجالٍ من مجالات التعلُّم، مكانته التي لا يمكن بحالٍ الاستغناء عنها، حتى يبتكر العالم بديلاً لها في وظيفتها، وهي قدرة الوسيط الورقي على تثبيت المعلومة بشكل أفضل بكثير من الوسيط الإلكتروني، وتثبيت المعارف المختلفة عند المتلقِّي، طفلاً كان أم كبيرًا، سواء من خلال الكتابة أو من خلال القراءة.
وهي قدرة لن تجبُّها وسائط التقنية الحديثة مهما تطورت، حتى لو اخترع الإنسان شيئًا يقدر على أنْ يضع بنوك المعلومات والمعارِف المختلفة في الدماغ البشري مباشرةً؛ حيث إنَّه سوف يبقى للوسيط الورقي دوره في الكتابة، وهي مهارةٌ يكوِّنُها الإنسان منذ طفولته، وفيها الكثير مِن الأمور المتعلقة بوظائف جسم الإنسان، مثل التناسق بين حاسَّتَيْ البصر والحركة، والتناسق بينها وبين مراكز التفكير في الدماغ البشري.
وقد يقول قائلٌ؛ إنَّ العمل سوف يصل بكلِّ تأكيدٍ إلى مرحلة يقدِّم فيها مبتكرات رقمية، صُلبَة أو سايبرانية، أيضًا تعين في ذلك بدلاً من الوسيط الورقي، هنا نشير إلى نتائج أبحاث جَرَت في مجالَيْ علمَيْ النفس ووظائف الأعضاء تقول بأنَّ مهارات الإنسان المرتبطة بالكتابة على النحو الذي سبق وأنْ اختزلناه في الفقرة السابقة، لا تقف فحسب عند الكتابة؛ حيث هي – الكتابة – ناتج ضمن نواتج مهمة لاكتساب الجسم البشري، حواسَّ وأعضاء، لهذه المهارات، لا يمكن للإنسان الاستغناء عنها.
وللتوضيح؛ فقضية التنسيق الذي يشرف عليه الدماغ بين حواس الإنسان وأعضائه، وبين هذه الحواس والأعضاء وبين مراكز التفكير في مخ الإنسان، لا تقف فحسب عند مهارات القراءة والكتابة، وإنما تمتد إلى قدرته على المشي وتحريك يدَيْه ومهارات أخرى أساسية لا تغني عنها وسائط التقنية الحديثة بالمطلق؛ حيث هي من صميم حياة الإنسان، وكونه مخلوقًا حيًّا مفكِّرًا ومتحرِّكًا.
وبشكل منطقي أصولي؛ فإنَّه لا يمكن استبدالها بوسيط رقمي أو آلي صُلب، وإلا لما احتاج المخترعون إلى أنْ يقلدوها في الروبوتات؛ حيث إنَّ الكثير من علم وظائف الأعضاء وميكانيزمات حركة الإنسان والمخلوقات الحية الأخرى، هي التي يتم نقلها إلى مجال الآليات والروبوتات.
فالطائرات والسفن والغواصات، يتم عند تصميمها أو صناعتها، اقتباس الكثير من صفات ومهارات الكائنات الحية، وآليات تطبيقها لها وليس العكس.
وبالبداهة؛ فلو فقد الإنسان هذه المهارات أو ضمرت لديه؛ لن يكون قادرًا على الابتكار والإبداع؛ لأنَّ الأخيرَيْن بحاجة إلى جسدٍ وقدرات عقلية مكتملَيْن ومتناسقَيْن في الأداء، فلا يمكن أنْ تطلبَ من شخصٍ فاقد القدرة على الحركة، أن يقوم باختراع وتجربة روبوتٍ أو آلةٍ لتسلُّق الجبال.
وما قد يُقال هنا عن علماء كانوا غير مبصرين أو معاقين، مثل ستيفن هوكينج؛ حيث هُم طفراتٌ في قدراتهم، وهم استثناء لا يمكن بحالٍ تعميمه.
وفيما يتعلَّق بمجال اهتماماتنا في العالم العربي والإسلامي في هذا الصدد؛ تُعتبر اللغة العربية، الضحية الأساسية لمثل هذه الجوانب السلبية في مخترعاتنا الحديثة، وفي عمليات تطوير العملية التعليمية.
وهناك أكثر من جانبٍ لهذه المشكلة، فأولاً؛ تحوُّل الطفل والمراهِق من الوسيط الورقي أو المادي بشكل عام، مثل الألعاب الخشبية في القراءة والكتابة؛ يقلِّص كثيرًا من قدرته على تعلُّمِها وفهمها.
وهو أمرٌ واضحٌ في الأجيال الحديثة أو "جيل التابلت" كما يُطلَق عليه؛ حيث اللغة بالأساس ممارسة، قراءةً وكتابةً.
وهذا الأمر لا يقف عند حدود نقطة القراءة والكتابة، بل يمتد ذلك إلى ثقافة الإنسان، لأنَّ عدم قدرته على التعامل مع اللغة بأساسياتها، يفقِد الإنسان القدرة على تذوُّق الآداب والفنون المختلفة، وتحصيل المعارف الضرورية لكي يكون مبدِعًا، أو حتى إنسانًا عاديًّا، قادرًا على تقديم الحد الأدنى من الإسهام في المجتمع المحيط به.
أضف إلى ذلك، أهمية اللغة والتعامل معها في الجانب الخاص بالقرآن الكريم، قراءةً وتدبُّرًا؛ فما لم يكن المسلم واعيًا بشكل سليمٍ للغة العربية؛ فلن يكون بمقدوره فهم كتاب اللهِ تعالى والعمل بتعاليمه.
ولعلنا لسنا مُبالغين في هذا الذي نقول؛ حيث في أكثر الدول تقدُّمًا في المجال العلمي، ويطبِّقون مفردات العلم الحديث ومبتكراته في مجال التعليم والتأهيل؛ لا يزالون يحتفظون بالأساليب القديمة التي تعتمد على الورقة والقلم والخشب والوسائط المادية الصُّلبة بشكل عام، في تعليم الأطفال والناشئة الأمور الأساسية، مثل اللغة والحساب.
وهو أمرٌ ينبغي أنْ ينتبه إليه معلِّمُونا ومربُّونا في مختلف المحاضن التعليمية والتربوية، بما في ذلك الأبِ والأُم في الأسرة.