إن من أعظم النِّعم التي يُنعم الله تعالى بها على العبد هي أن يرزقه السَّكينة، فلا تراه أمام النوازل وغيرها إلا هاديء الحال، مُطمئن القلب، واثق الخُطى، رابط الجأش. إذا تكلم أفهم وأقنع، وإذا نصح أوجز وأبدع، وإذا سكت كانت له هيبة، وعليه وقاراً، ولديه القدرة على تملك قلب من أمامه مهما كان طبعه ومهما كانت العلاقة بينهما.
إن السكينة تمنح صاحبها ثباتاً انفعالياً يجعله يسيطر سيطرة تامة على قواه العقليّة، وقدراته الحسيّة، وردود أفعاله في مواجهة كل ما يعترضه .- يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "السكينة إذا نزلت على القلب اطمأن بها، وسكنت إليها الجوارح، وخشعت، واكتسبت الوقار، وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخِنا والفحش، واللغو والهجر وكل باطل. وفي صفة رسول الله في الكتب المتقدمة: إني باعث نبياً أمياً، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا مُتزين بالفحش، ولا قوال للخِنا. أسدده لكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، ثم أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدي إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه" أهـ.
وصدق من قال: " السَّكِينَة رداء ينزل فيثبِّت القلوب الطَّائرة، ويهدِّئ الانفعالات الثَّائرة".
أولاً: معنى السكينة
يُعرِّف الإمام ابن القيِّم السكينة فيقول: "هي الطُّمَأنِينة والوَقَار والسُّكون، الذي ينزِّله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدَّة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان، وقوَّة اليقين والثَّبات".
ويُعرِّفها الجرجانى فيقول: "السَّكِينَة: ما يجده القلب من الطُّمَأنِينة عند تنزُّل الغيب، وهي نور في القلب يَسْكُن إلى شاهده ويطمئن".
ثانياً: آيات السكينة في القرآن الكريم
ذكر الله تعالى السكينة في القرآن الكريم في ستة مواضع.
يقول ابن القيم رحمه الله في شرح منزلة السكينة: "هذه المنزلة من منازل المواهب، لا من منازل المكاسب، وقد ذكر الله سبحانه السكينة في كتابه في ستة مواضع:-
الأول: قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 248].
الثاني: قوله تعالى: {ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:26].
الثالث: قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة:40].
الرابع: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4].
الخامس: قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 18].
السادس: قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26].
* يقول ابن القيِّم رحمه الله: "كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا اشتدَّت عليه الأمور قرأ آيات السَّكِينَة".
* وقال ابن القيِّم في "مدارج السالكين": "قد جرَّبت -أنا أيضًا- قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه، فرأيت لها تأثيرًا عظيمًا في سكونه وطمأنينته".
ثالثاً: ذكر السَّكِينَة في السُّنَّة النبوية المطهرة
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "إذا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فلا تَأْتُوها تَسْعَوْنَ، وأْتُوها تَمْشُونَ وعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَما أدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وما فاتَكُمْ فأتِمُّوا" (صحيح مسلم).
2- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنَّهُ دَفَعَ مع النبيِّ ﷺ يَومَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النبيُّ ﷺ ورَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا، وضَرْبًا وصَوْتًا لِلْإِبِلِ، فأشَارَ بسَوْطِهِ إليهِم، وقالَ: أيُّها النَّاسُ، علَيْكُم بالسَّكِينَةِ؛ فإنَّ البِرَّ ليسَ بالإِيضَاعِ" (صحيح البخاري).
* فإنَّ البِرَّ ليسَ بالإِيضَاعِ: أي أن تكلف الإسراع في السير ليس من البر.
* قال المهلب: إنما نهاهم عن الإسراع إبقاء عليهم لئلا يجحفوا بأنفسهم مع بُعد المسافة.
3- عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "ما رأَيْتُ أحدًا كان أشبهَ سمتًا وهَدْيًا ودَلًّا. والهدى والدال، برسولِ اللهِ ﷺ من فاطمةَ كرَّمَ اللهُ وجَهْهَا؛ كانت إذا دخَلَتْ عليه قام إليها، فأخَذَ بيدِها وقبَّلَها وأَجْلَسَها في مجلسِه، وكان إذا دخَلَ عليها قامت إليه، فأَخَذَتْ بيدِه فقَبَّلَتْه وأَجَلَسَتْه في مجلسِها" (صحيح أبي داود).
* قال القاري: "سمتًا" أي: هيئة وطريقة كانت عليها من السَّكِينَة والوَقَار.
* ودلًّا: بفتح دال وتشديد لام، فسَّره الرَّاغب بحُسْن الشَّمائل.
4- عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "رَأَيْتُ النبيَّ ﷺ يَومَ الخَنْدَقِ يَنْقُلُ معنَا التُّرَابَ، وهو يقولُ: واللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ ما اهْتَدَيْنَا، ولَا صُمْنَا ولَا صَلَّيْنَا، فأنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا، وثَبِّتِ الأقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا، والمُشْرِكُونَ قدْ بَغَوْا عَلَيْنَا، إذَا أرَادُوا فِتْنَةً أبيْنَا" (صحيح البخاري).
5- عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وسَكِّنُوا ولا تُنَفِّرُوا" (صحيح البخاري).
رابعاً: بعض فوائد السكينة
جاء في كتاب "مدارج السالكين" للإمام بن القيم رحمه الله: "متى نزلت على العبد السكينة: استقام، وصلحت أحواله، وصلح باله، وإذا ترحلت عنه السكينة، ترَّحل عنه السرور والأمن والدعة والراحة وطيب العيش، فمن أعظم نعم الله على عبده: تـنـزل السكينة عليه، ومن أعظم أسبابها: الرضا عنه في جميع الحالات" أهـ.
إن من يتحلى بالسكينة تراه خاشعاً في صلاته، مُنظماً في شئونه، متواضعاً مع الخلق، يألفه الناس ويُحبونه، يترفع عن الدَّنايا، ويصبر على البلايا، وفوق ذلك كله تراه أكثر الناس يقيناً ورضاً وثباتاً وحكمة.
خامساً: بعض الأمثلة عن السكينة
إن مواقف السكينة في حياة الأنبياء أكثر من أن تحصى، ولكن نذكر منها:-
1- السَّكِينَة التي نزلت على نبي الله إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وحين واجه قومه عبدة الأصنام.
2- والسكينة التي شعر بها نبي الله إسماعيل حين قال له أبوه إبراهيم عليه السلام: " يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى".
3- والسكينة التي لازمت نبي الله يوسف عليه السلام في مراحل حياته كلها إلى أن اصطفاه الله تعالى.
4- والسَّكِينَة التي نزلت على نبي الله موسى عليه السلام في مواقفه العديدة مع فرعون، وتلك التي حصلت له وقت تكليم الله تعالى له نداءً ونجاءً، كلامًا حقيقةً، سمعه حقيقةً بأذنه.
5- والسَّكِينَة التي حصلت للنبي ﷺ وهو في الغار، وفي مواقف أخرى عديدة مثل يوم بدر، ويوم حُنين، ويوم الخندَّق... الخ.
وأمثلة السكينة في حياة تابعي الرسل والصحابة والتابعين وتابعيهم أكثر من أن تحصى كذلك، نذكر منها:-
ما حدث من سكينة لأصحاب الأخدود، وماشطة ابنة فرعون، وآل ياسر، وبلال، وسعيد بن جبير، وأحمد بن حنبل، وابن تيمية، وابن الجوزي، وعمر المختار، وسيد قطب، ... وغيرهم كثيرين إلى يومنا هذا ما علمنا منهم وما لم نعلم.
سادساً: لا تبحث عن السكينة في أماكن الشتات
إن من أسباب شتات الأمر وضيق الصَّدر وجزع النفس واضطراب القلب، هو أننا تركنا المواضع التي جعل الله تعالى فيها السكينة وبحثنا عنها في غير موضعها، فهذا يلجأ للمهدئات، وذاك يميل للشهوات، وهذه تبحث عن السكينة في الموديلات، وتلك تنقب عنها في الحانات، إلى غير ذلك من الأمور التي تزيد الطين بلة، والأشياء التي لا تجلب سوى الشتات والمنغصات.
من أسباب شتات الأمر وضيق الصَّدر وجزع النفس واضطراب القلب، هو أننا تركنا المواضع التي جعل الله تعالى فيها السكينة وبحثنا عنها في غير موضعها
إن القرآن الكريم ذكر أموراً كثيرة بها تتحقق السكينة والطمأنينة، منها:-
1- قوله تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً} [النحل: من الآية 80].
وبالرغم من ذلك نفر من بيوتنا وكأن بها حيات وعقارب، وهي ما بها سوى قرة العين، وحبات القلب، وفلذات الفؤاد، فيدور الجميع في حلقة مُفرغة بحثاً عن السكينة وهي تملأ جنبات بيوتهم.
2- وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} [يونس: من الآية 67].
وبالرغم من ذلك ترانا ندمن السَّهر الذي يتنافى مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فتختل أمورنا وتضطرب أنفسنا ونفقد السكينة في كل أحوالنا وفي كل أوقاتنا.
3- وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: من الآية 21].
وبالرغم من ذلك نجد المرء بشوشاً مرحاً مع أصدقائه وزملائه، وإن شئت فقل مع صديقاته وزميلاته، حتى إذا دخل بيته لا تراه إلا عبوساً مُقطباً وجهه ولا يتحدث إلا بصوت فيه جفوة ورعونة، كأنه يخاطب مارداً من الجن، والرجال والنساء في ذلك كله سواء.
يا عباد الله! إن هَدْي الله تعالى به ما يُصلحنا، ومجانبته بها ما يشقينا مهما حِيزت لنا الدنيا بحذافيرها، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
إن كل ما سبق ما هو إلا غيض من فيض مما جاء في القرآن الكريم، والنماذج أيضاً كثيرة في السنة النبوية، نذكر منها:-
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "ما جلَس قومٌ في مسجِدٍ مِن مساجِدِ اللهِ يَتْلونَ كتابَ اللهِ ويتدارَسونَه بَيْنَهم إلَّا نزَلَتْ عليهم السَّكينةُ وغشِيَتْهم الرَّحمةُ وحفَّتْهم الملائكةُ وذكَرهم اللهُ فيمَنْ عِندَه ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه" (صحيح ابن حبان).
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
2- وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "كانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الكَهْفِ وَعِنْدَهُ فَرَسٌ مَرْبُوطٌ بشَطَنَيْنِ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ فَجَعَلَتْ تَدُورُ وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ منها، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النبيَّ ﷺ فَذَكَرَ ذلكَ له، فَقالَ: تِلكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ" (صحيح مسلم).
أخيراً أقول
إن السكينة ليست بالشيء الهيِّن، فهي منزلة لا يُوفق إليها العبد إلا بعد إخلاص وجهد جهيد ومجاهدة.
إن السكينة هي التي جعلت أمير المؤمنين علي وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم يشهدون لجبار الجاهلية الفاروق عمر رضي الله عنه ويقولون: "ما كنا نبعد أنَّ السَّكينةَ تنطقُ على لسانِ عمرَ" (منهاج السنة).
إن السكينة هي الفرق بين الصادق والكاذب، وبين التقي والدَّعي ، فالكاذب إن كذب على كل الخلائق فإنه لا يكذب على نفسه، ومُدعي التقوى تفضحه الشدائد.