بعد إرساء أصول العمران وعلوم الاضطرار التي سبقت الإشارة إليها في مقال "علوم الاضطرار لكل مسلم"، سيعتمد قدر كبير من اكتشاف طاقات الذات وصوغ مهاراتها على التجربة الجادّة للمتاح من العلوم والفنون بدافع الميل الشخصي أو الفضول المعرفي تجاهها.
والتجربة الجادة هي المبنية على الصبر في التعرف على المهارة والمثابرة في التمرّن عليها، حتى تصل لموقف واضح منها: كتركها، أو الاستمرار فيها لبلوغ درجة معيّنة من الإتقان أو التخصص، أو اتخاذها سبيل مهنة وتكسّب، أو الاكتفاء بها هواية وترويحًا... إلى آخر أنواع المواقف الواضحة.
وهذه المرونة في التنقل بين مجالات الاشتغال وتجريب مختلف الميول أو المهارات هي مرحلة ضرورية من مراحل التعرف على طاقات الذات وبنائها. أمّا الاكتفاء بمجرد التمنّي الحالم والتوقف عند السرد النظري للأهداف والطموحات فلن يبلُغا بصاحبهما شيئًا ، وستتراكم الأعوام وهو يؤجّلها باستمرار بدعوى أنه محتار بينها ولا يعرف بعد أيّها أصلح له! فلا بد من خوض غمار التجربة الجادّة بصبر ومثابرة حتى يتضّح للمجرِّب ما يصلح هو له وما يصلح له هو. هكذا تكون التجربة المنهجية المثمرة.
لا بد من خوض غمار التجربة الجادّة بصبر ومثابرة حتى يتضّح للمجرِّب ما يصلح هو له وما يصلح له هو
من جهة أخرى، تختلف التجربة الجادة المَرِنة عن "الأرنبية" العَبَثية . والمقصود بالأرنبية هنا القفز بإفراط بين المهارات والتشتت بين كثرة المُجَرَّبات، دون جدية حقيقية أو دون منهجية صحيحة.
فالأَرنبيُّ يَمَلُّ سريعًا ويهرب كثيرًا ويتدلل غالبًا ويتذمّر دائمًا، ولا يراجع نفسه في جدّية قصده وحقيقة نواياه مما يفعل أو يترك. فلا يزداد بكل ذلك التجريب إلا شعورًا بالخواء الداخلـي والضغط الخارجي، بدل أن تملأه كل تلك الخبرات وتربّيه كل تلك التجارب! فتأمل! والفيصل في وزن تنقلاتك بين الأرنبية العبثية والتجريب الواعي يكمن في: مراجعتك لمدى وضوح هدفك من الإقدام على التجربة، وجدّيتك ومنهجيتك في التجريب، والنتيجة التي تخلُص إليها من كل ذلك بما يزيد معرفتك بطاقاتك وما تصلح له ويصلح لك.
والتشتت والأرنبية هما نتاج شخصية مذبذبة، لم تنضبط عندها الأصول لتستقيم لها الفروع. فهي على الدوام مزعزعة من تعليقات الآخرين عليها وذمّهم لحركتها المتخبطة، لأنه ببساطة صدى لشعورها بالفوضى الداخلية في نفسها أولًا. وهذا بخلاف المرونة التي لا تناقض رسوخ الشخصية أو سَعَة الحركة في الحياة، بل هي نتاجهما ؛ لأنّ الذي بنى أصول شخصيته بناء صحيحًا ورسَخَ في أرض نفسه، يمكن أن يتنقل في أرض الله على بصيرة، مهما كثر أو قلَّ التنقل؛ إذ العبرة بكون التنقل وفق منهجية صحيحة ومقاييس واضحة عنده لأقدار الأمور وأولويات الاشتغال، فلا يَضرّه ولا يعنيه ما يظنه الناس به من تشتت، بل لا يَغرُّه ذمّهم أو مدحهم عما يعلمه من حقيقة حاله ومسؤوليات موازناته الشخصية.
التشتت والأرنبية هما نتاج شخصية مذبذبة، فهي على الدوام مزعزعة من تعليقات الآخرين عليها وذمّهم لحركتها المتخبطة، لأنه ببساطة صدى لشعورها بالفوضى الداخلية في نفسها أولًا
خذ أمرك بجدّية ونفسك بعزم، واستحضر حقيقة أنك تُقدِّم من نفسك لنفسك، وتنفق من عمرك المؤقت في الدنيا لعمرك الخالد في الآخرة. ولا يغرنّك الشباب بسَعَة الوقت والصحّة للفِّ والدوران والعبث والتلهّي : {اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هِرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ} [الحاكم والبيهقي].