تُعتَبَر قضية العلاقة بين السياسة، ولاسيما في مجال الحكم، وبين الأخلاق، ومدى التزام الأولى بالثانية في عملها، واحدةً من أبرز القضايا التي شغلت بال المفكرين والفلاسفة عبر التاريخ، بمَن في ذلك الفقهاء والمفكرين المسلمين، وصولاً إلى الحركات الإسلامية المُعاصِرة.
وفي هذا الإطار، يتَّسع مفهوم الأخلاق الذي يجب أو لا يجب بحسب المدرسة التي تتناول هذا الأمر، لكي يشمل عند المفكرين الأصوليين، مسلمين أو غير مسلمين، النواحي المتعلقة بأثر قواعد الدين في العمل السياسي والحكم، وهل ينبغي أنْ يتدخل الدين أو لا.
وبين أيدينا كتابٌ مهمٌّ يتناول بالنقدِ والتحليل النظريات المختلفة للعلاقة بين السياسة والحكم وبين الأخلاق، أثار الكثير من الجدل وقت صدوره للمرَّة الأولى عن هيئة قصور الثقافة المصرية في مطلع الألفية الثالثة (2001م)، قبل أنْ تعيد الهيئة المصرية العامة للكتاب إصداره في العام 2010م.
ويستند جذر منطق الكتاب الأساسي الذي سعى فيه إمام، هو الدعوة إلى فصل العلاقة بين السياسة والأخلاق.
وقد يبدو هذا الأمر مُنتَقَدًا، ولكن، بمراجعة الكثير من الأدبيات والأفكار التي ظهرت في تاريخ الحركة الإسلامية الحديثة والمعاصِرة، سواء في فترة التكوين في نهايات بدايات القرن العشرين، أو بعد الصدمة التي تلقتها في مرحلة ما بعد ثورات ما يُعرَف بالربيع العربي؛ سوف يجد الكثير من الأفكار التي طرحها إمام في هذا الكتاب.
وهذا لا يخص غُلاة المتطرفين الذين رأوا أنَّ الالتزام بالأخلاق في مواجهة الاستبداد والفساد لا يجوز شرعًا، وإنما حتى داخل بعض المدارس داخل الحركة الإسلامية الوسطية، ولاسيما الإخوان المسلمين؛ حيث هناك كتابات طرحت هذه الفكرة ولكن من منظور آخر، وهو أنَّه من الضروري لو أرادت الحركة الإسلامية كسب الأرض في بداية تجربتها في الحكم؛ فإنَّه من المهم لها أنْ تتحلَّل بعض الشيء من الالتزام الحرفي الصارم الذي تنصُّ عليه الأدبيات الأُمُّ للمؤسسين، مثل حسن البنا والمودودي.
فهؤلاء يرون أنَّ فقه الواقع يقتضي الاعتراف أنَّ الحركة الإسلامية – أيًّا كانت – في بداية دخولها مجال السياسة ثم الحكم؛ فإنَّها سوف تكون تلعب في ملعب له مواصفات تختلف تمامًا عن المرتكز الأخلاقي الذي ينهض عليه المشروع الإسلامي، ولذلك دعوا إلى بعض المرونة والبراجماتية في البداية انطلاقًا من اعتبارات المصلحة وضرورات التمكين.
ولمزيدٍ من الدقَّة؛ فإنَّ الكتاب الذي بين أيدينا يدرس هذه الظاهرة ولا يروِّج لها كما رأى منتقدوه؛ حيث يتناول قضية العلاقة بين السياسة والحكم وبين الأخلاق منذ فترة حكم الفلاسفة في الدولة اليونانية القديمة، وحتى زمننا المعاصِر، وإنْ لَم يخفِ المؤلف تأييده الكامل لمفهوم الدولة المدنية التي تقوم على أساس الديمقراطية كمعالجة لمشكلات الدول والمجتمعات.
والكتاب في هذا الإطار، جاء شديد التعقيد والتكثيف؛ حيث إنَّه وضع فيما يقل قليلاً عن الخمسمائة صفحة، ملخَّصًا فكريًّا ومؤسسيًّا لكل تجارب الحكم التي ظهرت عبر التاريخ منذ اليونانيين والرومان، وحتى الديمقراطيات المعاصِرة.
ولكن قبل مناقشته؛ ينبغي التأكيد على أنَّ المؤلف لا يريد فصل الدين عن السياسة والحكم، بل ينفي تمامًا – كما قال في مقدمته للكتاب – أنَّ أزمات المجتمعات العربية تكمن في الأخلاق أو الدين، وإنَّما هو يرى أنَّ المشكلات الأساسية هي في التنظيرات والممارسات التي ترتكز إلى الدين والأخلاق، ولكنها توظِّف كليهما لخدمة الأنظمة الاستبدادية.
مع الكتاب:
في هذا الإطار، جاء الكتاب في ثمانية أبواب، قسَّم المؤلِّف كلاًّ منها إلى عددٍ من الفصول، وبدأ ببابٍ بعنوان: "مناقشات تمهيدية"، جاء في ثلاثة فصول تناول فيه بالأساس ما وصفه بـ"حتمية الديمقراطية"، باعتبارها النظام الأمثل للحكم، وفق منظوره لقراءة التطور التاريخي للسياسة والحكم في الغرب وبعض الدول الأخرى مثل اليابان، وكيف تدرَّجت من الاستبداد والديكتاتورية، حتى فرضت الديمقراطية نفسها في النهاية.
الباب الثاني، مال فيه المؤلف إلى البحوث الأنثروبولوجية؛ حيث درس تطور الأخلاق والسياسة عند الإنسان من زاوية الأنثربولوجي الثقافي، وكيف تطورت المجتمعات الإنسانية سياسيًّا منذ زمن القبيلة وحتى الدولة.
أما الباب الثالث؛ فقد خصصه المؤلف للحديث عن الأخلاق والسياسة وكيف كانت الأولى متداخلة مع الثانية في حضارات الشرق القديم، من خلال نموذجَيْ الحضارتَيْن المصرية والصينية القديمتَيْن.
الباب الرابع تناول فيه المؤلف هذا الخلط أو التداخُل بين الأخلاق والسياسة في الفكر اليوناني، عند أفلاطون وأرسطو.
الباب الخامس، تناول فيه الفكر السياسي عند المسلمين، من خلال نماذج حالة، مثل ابن أبي الربيع -أستاذ ابن خلدون- والفارابي، واختار له "المدينة الفاضلة" لدراسة أفكاره، وأفكار الماوردي من خلال "الأحكام السلطانية، والطرطوشي من خلال "سراج الملوك".
وحتى هنا؛ وجد المؤلف أنَّ الأخلاق كانت حاكمة للسياسة والحكم، أو متداخلة معها، ثم وجد أنْ بداية الانفصال بينهما في مجال الفكر السياسي، ثم التطبيق بعد ذلك، أوروبا العصور الوسطى، وهو ما تناوله في الفصل السادس من خلال أفكار ماكيافيللي وتوماس هوبز وجون لوك.
الباب السابع وصل فيه إلى التطبيقات المعاصِرة للديمقراطية؛ آخذًا نماذج عليها، بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا واليابان.
ويقول إنه اختار اليابان لنقض فكرة أنَّ الديمقراطية نظام غربي بالأساس، ولكنَّه هنا وقع في خطأ تاريخي كبير؛ حيث إنَّ النظام الياباني الحالي، فرضه الغرب على اليابان بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، حتى دستورها ومؤسساتها.
أما الباب الثامن والأخير، فقد تناول فيه المؤلف قضية الأخلاق والسياسة في مجال العلاقات الدولية، ورد على بعض الانتقادات الموجَّهة إلى الديمقراطية الليبرالية التي وصفها البعض بـ"الاستبداد المتحضِّر"، أو "استبداد الأغلبية".
مع المؤلف
الأكاديمي والمفكر المصري الراحل، إمام عبد الفتاح إمام (1934م - 2019م). تخصص إمام في الفلسفة والعلوم الإنسانية، واشتهر بترجمته لأعمال الفيلسوف الألماني هيجل إلى اللغة العربية.
درس بجامعة عين شمس وعمل في العديد من الجامعات المصرية والعربية، وله عدد كبير من المؤلَّفات والأعمال المُتَرجَمة، ويعدُّ تلميذًا للمفكر والفيلسوف المصري، زكي نجيب محمود، وله الكثير من التعليقات على كتابات وأفكار محمود في مجال الفكر المعاصر.
من أهم مؤلفاته، "مدخل إلى الفلسفة"، و"تطور الجدل بعد هيجل" (3 أجزاء)، و"كيركجور.. رائد الوجودية" (جزآن)، و"معجم ديانات وأساطير العالم"، أما من ترجماته من مؤلفات هيجل، "فلسفة التاريخ"، و"أصول فلسفة الحق"، "ظاهريات الروح"، و"محاضرات في تاريخ الفلسفة"، بالإضافة إلى كتاب "استعباد النساء" للمفكر الإنجليزي جون ستيوارت مِل، أما في مجال البحوث، فله "رحلة في فكر زكي نجيب محمود"، و"هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية"، و"الديمقراطية".
بيانات الكتاب:
اسم المؤلف: إمام عبد الفتاح إمام
اسم الكتاب: الأخلاق والسياسة.. دراسة في فلسفة الحكم
مكان النشر: القاهرة
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب
تاريخ النشر: 2010م
الطبعة: الثانية
عدد الصفحات: 456 صفحة