يحملُ شهرُ رجبٍ ذكرى حَدَثٍ عظيمٍ، كان له أكبر الأثر على الدعوة الإسلامية في سنواتها الأولى، وأسس للكثير من الأمور المركزية في هذا الدين، والتي لا تزال مستمرَّةً معنا، وهي ذكرى حَدَثِ الإسراء والمعراج.
فكان أنْ رافق الحدث فرض الصلاة على المسلمين، والتي هي أهم أركان الإسلام، والفارق بين الإيمان والكُفْرِ، وهي الصِّلَةُ بين العبدِ وربِّه، والتي على أهميتها وقيمتها، يتواضَعُ فيها اللهُ تعالى بكُلِّ كبريائه وعزِّه، بأنْ يجعل المسلم أقرب إليه في سجوده ودعائه.
وكان للحدث آثارٌ كبيرة على مجتمع المسلمين ومجتمع الدعوة الأوَّل؛ حيث ميَّز التصديق به من عدمه بين المؤمن وغير المؤمن، وهو أمرٌ على أكبر قدرٍ من الأهمية في ضمان تماسُكِ أيِّ مجتمعٍ، ولاسيما لو كان لا يزال مجتمعًا ناشئًا ضعيفاً في العصبية وفي عناصر القوة المادية التي يملكها ويتحرَّك في مجتمعٍ معادٍ كبيرٍ وقويٍّ على النحوِ الذي كان يحيا فيه مجتمع المسلمون الأوائل.
وبعيدًا عن التفاصيل التقليدية المرتبطة بالحَدَثِ، والتي تحفل بها كُتُب السُّنَّة والتاريخ الإسلامي؛ فإنَّ هناك الكثير من الدروس والجوانب التي ينبغي التأكيد عليها الآن؛ في هذا العصر الذي نعيشه؛ عصر الزُّخرف وسيادة المادة كعنصر تقييم للإنسان، من جانب الآخرين ومن جانب نفسه، لنفسه.
وهناك العديد مِن السياقات التي يُقدِّرُها الفقهاء والمُفَسِّرون المسلمون عبر التاريخ لاختيار اللهِ تعالى لرسوله الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، لهذا المشهد العظيم بكلِّ ما مرَّ به فيه مِن مواقف، مثل إمامته لأنبياء اللهِ تعالى، عليهم الصلاةُ والسلام، ووصوله إلى منزلةٍ لم يصل إليها مخلوقٌ قطَّ؛ عند سدرة المنتهى، ومثوله بين يدَيْ اللهِ عزَّ وجلَّ.
ومن بين هذه السياقات، سلسلة مما يمكن أنْ نطلقَ عليها انتكاسات مرَّ بها الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وأُصيبت بها الدعوة، وكان مِن بينها غياب أهم داعميه "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"؛ زوجهُ، السيدة خديجة بنت خويلد (رضي اللهُ عنها)، وعمّه أبو طالب، والخذلان والغلظة الَّلذَيْن وجدهما عليه الصلاة والسلام مِن أهل الطائف، وعدوانهم عليه.
كانت هذه المواقف من بين ما دفع أصحاب النفوس المريضة مِن كُفَّار مكة إلى التفكير بأنَّ مكانة الرسول "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، قد نزلت، وهان أمره بينهم، بعد أنْ أبلغه رُسُل بني ثقيف في الطائف بما كان من أمرهم مع النبي "عليه الصَّلاةُ والسَّلام".
وكان مما دعا به النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" في موقف الطائف، وينقلُ هذا الإحساس: "اللَّهمَّ إليكَ أشكو ضَعْف قوَّتي، وقِلَّة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الرَّاحمين، أنتَ ربُّ المستضعفين وأنت ربِّي".
فكان حَدَثُ الإسراء والمعراج الذي كان فيه من التكريم ما لم ولن يحظى به بشرٌ أو مخلوقٌ قط؛ حيث صار ضيفًا على السماوات العُلى، ووفق بين يدَيْ مولاه الذي كان يكلِّمُه ويبثُّ الثقةَ في نفسه.
كان حَدَثُ الإسراء والمعراج الذي كان فيه من التكريم ما لم ولن يحظى به بشرٌ أو مخلوقٌ قط؛ حيث صار ضيفًا على السماوات العُلى، ووفق بين يدَيْ مولاه الذي كان يكلِّمُه ويبثُّ الثقةَ في نفسه
هذا البَشَرُ الذي وقف هذا الموقِف، كان منذ قليل على هذه الأرضِ الفانية، يُخيَّلُ لضيِّقي الأفق أنَّه قد وصل فيها إلى درجةٍ من الهوان ما بعدها درجة؛ حيث وقف الغلمان والسفهاء في الطائف يقذفونه بالطوب حتى انبثق الدم من جسده الشريف، ويقول له صناديد الكفرِ منهم: "أمَا وجَدَ اللهُ أحدًا يرسله غيرك؟"، وفي مكة؛ يهيلون التراب على رأسه، وهو لا يفعل سوى أنْ يبتسمَ لابنته السيدة فاطمة (رضي اللهُ عنها)، ويقول لها وهو يراها تبكي مما تجده عليه من أذىً: "لا تَبْكي يا بُنيَّة، إنَّ اللهَ مانِعٌ أباك".
فكان الارتقاء العظيم؛ حيث يخبرنا حَدَثُ الإسراء والمعراج أنَّ الارتقاء الحقيقي للإنسان، هو في مكانته عند ربه؛ حيث الرفعة والذِّلَة بيد اللهِ وحده، وهو الذي يملكُ أنْ يعزَّ مَن يشاءُ ويذلُّ مَن يشاءُ ؛ حيث هو المعزُّ المُذِلُّ، وهو أيضًا مالكُ الملكِ، وليس للإنسان أو لمخلوقٍ آخر أي شيءٍ في ملكوتِ اللهِ سبحانه وتعالى.
هذا الدرسُ يخبرنا القرآن الكريم عنه الكثير؛ أنَّ العزَّة للهِ جميعًا، وليست لمخلوق، وإنَّ مَن يُدرِكَ هذا الأمر؛ فهو في أعلى علِّيين، وأمَّا مَن يأخذه زخرفُ الدنيا؛ فهو الخاسر في الدنيا والآخرة.
ومن بين المواقف اللافتة في هذا الصدد، موقف زوجة فرعون المؤمنة، التي كانت تُبنَى لها القصور، وتقامُ لها الأوابد والتماثيل، وتُعتبر لدى العوام الذين يعبدون فرعون من دون اللهِ، بمثابة زوجة إلههم نفسه؛ هذه السيدة نجدُ أنَّها قد وصلت إلى مستوىً من العقل والرشادة لكي تفهم أنَّ ذلك ليس هما الارتقاء والسؤدد الحقيقيَّيْن، وإنَّما الارتقاء والسؤدد الحقيقيَّيْن في رضا اللهِ تعالى عن الإنسان، وفي مكانته عند خالقه، وكيف سوف يكون في الآخرة.
ونقل عنها القرآنُ الكريمُ قولاً عظيمًا في موقفٍ عظيمٍ في هذا الصدد. يقول تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سُورَة التحريم:11].
فهي تعلم أنَّ كُل ما بناه فرعونُ لها من قصورٍ وتماثيل، لا يساوي أي شيءٍ أمام بيتٍ يبنيه اللهُ تعالى لها في الجنة، لأنَّ في ذلك مؤشر لرضا الخالق عن المخلوق، وفي ذلك فقط النجاة، وليس في أيِّ شيءٍ آخر.
إنَّ هناك مَن يسعى منَّا للحصول على سؤددِ وتصفيق المجتمع، ويطمعُ فقط في أنْ يشيرَ النَّاس عليه ببنانِ الشهرة، ويزكُّونه في أحاديثهم، ويبنون لهم التماثيل، ويطلقون أسماءهم على المباني والمنشآت تكريمًا وتخليدًا لهم، بينما الفوز العظيم كما أخبرنا القرآن الكريم، في رضوانِ اللهِ تعالى ورحمته بنا.
إنَّنا يجب أنْ نتعلَّمَ ونحن نسعى ذلك الدرس المهم الذي جاءت به امرأةُ فرعون، وجسَّده حدثُ الإسراءِ والمعراج؛ أنْ نبتغيَ فقط وجهَ اللهِ تعالى فيما نقوم به ونفعله، وأنْ نعلمَ أنَّ الارتقاء والخلود الحقيقيَّيْن، هما عند اللهِ تعالى، وفيما عند اللهِ سبحانه، وليس في زخرفِ الناس والدنيا !