إن قراءة سريعة لسورة الروم، تجعلك تستنتج بوضوح أنها سورة تعبّر عن التغيرات والتحولات التي يمكن أن تراها من حولك، فمن بدايتها تتحدث عن التغيرات في الأحداث السياسية والاجتماعية، وغلبة أمة وهزيمة أخرى، قال تعالى في مطلع السورة: "الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ".
وتطلب منك السورة أن تقف وقفة تأمل، لتأخذ العظة والعبرة من تداول الأيام وزوال الأمم، ففي بداياتها تقرآ قوله تعالى: "أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ".
كل ذلك ليقف المسلم العاقل على أحوال من سبق، فيعرف أسباب زوال الحضارات فيجتنبها، وأسباب تمكينها فيعمل بها .
وحين تتحدث السورة عن آيات الله في الكون تتحدث عن التغيرات في الزمان: "فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ".
ثم المقابلة بين الحي والميت، وتغيّر الأرض من حال البوار إلى الحياة: "يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ".
ثم التغير في وصف نشأة الإنسان، من تراب ثم إلى كيان بشري قويم: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُون".
بل وفصّلت السورة في وصف التغيرات في مراحل خلق الإنسان، من الضعف (الطفولة) الى القوة (الشباب)، ثم إلى الضعف مرة أخرى (الشيخوخة): "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ".
ثم التغير في الخلق كله بين الفناء والإعادة: "وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ".
والتغير في مقابلة الإنسان لنعمة الله بين شكر وكفر: "وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ".
ثم التغير في الرزق بين قبض وبسط: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ".
وكذلك التغير في وصف الريح فتارة تكون نعمة تجلب الخير والمطر: "اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ".
وتارة تكون ريحاً عاصفاً تهلك البلاد والعباد: "وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ".
ومع كل هذه التغيرات، يأتي التغيّر في الأفكار والمعتقدات، وما يصحبه من التغير في المواقف والأفعال، وهنا ينقسم الناس فريقين بين مؤمن وكافر، وكما تفرّقوا في الدنيا، يتفرّقون في الأخرة، وكما اختلف المسير يختلف المصير وكما اختلف الأداء سيختلف الجزاء: "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ".
ولا شك أن وضوح الهدف والمصير ينتج عنه وضوح الرؤية في الطريق والثبات عليه، ولعل هذه هي الرسالة الواضحة التي تبثها لك السورة -أيها المؤمن- أنه مع كل هذه التغيرات والتقلّبات التي تراها وتشهدها من حولك في هذا الكون، فإن ما عليك هو الثبات، الثبات على الحق مهما تلوّن الطغيان وتعدّد الباطل، ولذا تأمر السورة المؤمن وفي موضعين منها وبذات الألفاظ بالاستقامة على الدين والثبات عليه دون تردّد في الهمة أو ميل عن الجادّة، قال تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" وفي موضع آخر: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ".
ومما يزيد المؤمن ثباتاً على الطريق، اليقين بأن الله ناصرٌ دينه، وأن العاقبة للمتقين، وأن ذلك هو وعد الله الذي لا يتبدّل ولا يتخلّف كما جاء ذلك في أول السورة: "وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" وكما جاء في آخرها: "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ".
وهكذا ينسجم أول السورة مع آخرها، ليتحقق الوعد الالهي في قوله تعالى في نفس السورة "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ".
هذا والله أعلم