الصبر واليقين في سورة السجدة

الرئيسية » بأقلامكم » الصبر واليقين في سورة السجدة
images

ذكرت سورة السجدة، النتيجة الحتمية لعاقبة المؤمنين في نهاية الصراع بين الكفر والإيمان، وهي النصر و التمكين، وقد جعلت لذلك شرطين أساسيين هما الصبر واليقين، وذلك في قوله تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ".

وتتكلم سورة السجدة عن الصبر، الذي يتجلى في أداء عبادة عظيمة وهي قيام الليل، فإن فيها من المجاهدة والمصابرة ما جعلها من أول ما أُمر به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منذ البعثة كما كان الأمر في سورة المزمل: " يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا ".

وجاء في سورة السجدة ما يدعو إلى هذه العبادة، لما لها من أثر في تزكية نفسة المؤمن، وإعداده الإيماني لتلقي أوامر الوحي بقوة وثبات، والتدريب على المصابرة ومجاهدة النفس وهواها، فتترك لذيذ النوم والفراش لتستقيم على أمر الله، وذلك في قوله تعالى:" إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ".

وتأمل أوصاف هذه الفئة المؤمنة التي تقيم الليل ركّعا وسجّدا، قبدأت الأيات بوصفهم بالإيمان "إنما يؤمن يآياتنا" ثم تأثّـرهم بهذه الأيات والاستجابة السريعة لها والتي تدل عليها كلمة خرّوا "خروا سجدا" أي يهوون سريعا إلى سجدة خاشعة يناجون فيها ربهم...

وفي سبحات الليل وسكونه الهادىء يدعون ربهم.... يقصدون بابه...خوفاً من عذابه وطمعاً في ثوابه "يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا".

ثم يؤكدون ما تربّوا عليه في قيام الليل من مجاهدة النفس ومغالبة أهوائها، فينفقون من أموالهم ابتغاء مرضاة الله:" وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ".

ثم تأمل قوله " تتجافى " وكم توحي هذه الصيغة من التباعد الذي يكون بينهم وبين فراشهم ومضاجعهم، وكأنهم باتوا ليلتهم يكرهون ملازمتها فيعافونها ليسرعوا إلى ملاقاة ربهم ووقوفهم بين يديه...

إن عبادة قيام الليل ثقيلة على النفوس... و إن أمانة هذا الدين وتكاليفه ثقيلة أيضا...

ولن تقدر على الثانية حتى تقدر على الأولى...

وأما اليقين فتؤسس له أول سورة السجدة، بقاعدة إيمانية صلبة، تكسب الإيمان والثقة بالله الخالق، حيث تطوف بك الآيات الأولى من السورة بمشاهد من القدرة والعظمة التي بثّها الله في هذا الكون.

" اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ".

هي أوصاف جليلة... للذات العلية، تجعل المؤمن في خضمّ هذه الحياة وما يعتريه فيها من ابتلاءات ومحن، يلجأ إلى ركن شديد، وإله عظيم، غالب على أمره... ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو الإله ذاته الذي يسجد له وويناجيه في الليل حين يقوم إلى الصلاة وكأنه يجمع ما همّه في النهار ليبثه إلى خالقه ومولاه آخر الليل، فتسكن نفسه... ويخشع قلبه ويوقن أنه بعد هذه الخلوات لا بد أن تُـقضى الحاجات.

ومن قضايا اليقين والإيمان التي تعالجها السورة، قضية البعث بعد الموت، ولم البعث؟

كي يُـنتصر للمظلوم من الظالم... وكي يُجزى كلُّ امرىء بما كسب... فيثاب المحسن ويعاقب المسيء... وليس من العدل ولا من الحكمة أن تترك الأمور سدى؟ وأن يستوي الصالح والطالح؟

" وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ".

إن استذكار مشاهد العذاب للمجرمين والطغاة يوم القيامة، واستقرارها في عقيدة المسلم، مما يزيد المؤمن ثباتا على الطريق، ويجعله يطمئن إلى حكم الله وعدله في تصريف الأمور وتبدّل الأحوال، فيصبر على ما يلاقيه من الأذى والفتن لأنه يعلم أن انتقام الله من أولئك الطغاة وعذابه لهم قادمٌ عاجلاً أم آجلاً، إن لم يكن في الدنيا ففي الأخرة..

" وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ".

وتكثر في سورة السجدة الآيات التي تهدد بالعذاب، وتذكر هلاك الأمم السابقة بسبب كفرها وطغيانها وهذا هو اليقين بنصر الله الذي يجب أن يوقن به المؤمن، مهما طغا الكفر وتجبّر في الأرض، قال تعالى:" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ " وقال تعالى:" أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ".

والعذاب يترصدهم في الآخرة: "وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ".

وقوله تعالى:" وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ".
ويتمنى أولئك المجرمون لو تكون لهم فرصة فيرجعوا إلى الدنيا فيعملوا غير الذي كانوا يعملون من الفساد والافساد " وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ".

ونقف قبل نهاية السورة مع قوله تعالى:" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إلى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ".

وربما يكون السؤال: لم يذكر إحياء الأرض الميتة وما دلالتها في هذا السياق؟

ولعل الجواب أن الله القادر على أن يسوق الماء إلى الأرض الميتة، فيُحيلها إلى جنة خضراء، هو أيضا قادر أن يحيل ضعفكم قوة، وهزيمتكم نصرا، واستضعافكم عزّاً وتمكيناً.. لتنسجم الصورة مع البشارة والتمكين الذي تزفه السورة لعباد الله المؤمنين.

وفي أواخر السورة أيضا، يأتي مشهد الانتظار والتربص، بالمصير المنتظَر بعدما ملأت الآيات نفوس المؤمنين باليقين بغلبة الحق وهلاك أهل الباطل " وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ".

فأولى لك يا محمد ولكل مؤمن وداعية، أن تتركهم لغايتهم المخزية إن هم أصرّوا على كفرهم وطغيانهم، فإن العذاب آت لا محالة:" فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ".

هذا والله أعلم

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

بين عقيدة الإسلام و”عقيدة الواقعية

للإسلام تفسيرٌ للواقع وتعاملٌ معه بناءً على علم الله به ومشيئته فيه، كما يثبتهما الوحي. …