مِن ثوابت العلوم الاجتماعية، التنوُّع والتعدُّد، وأنَّه لا توجد ثوابت مطلقة، في ظِلِّ ارتباطاتها بالظاهرة الإنسانية، والتي تُعدُّ أكثر الظواهر الموجودة تَغيُّرًا.
وحتى في تلك المناطق التي تتماسُّ فيها العلوم الاجتماعية مع العلوم الطبيعية التطبيقية، مثل الطب؛ فإنَّ الطابع المُتَغيِّر وغير الثابت للظاهرة الإنسانية وكُلِّ ما يرتبطُ بها، هو الذي تكون له الغَلَبَة.
فتشخيص المرض الواحد وطرائق معالجته، تأخذ الكثير مِن الصور المتباينة مِن مريضٍ إلى آخر، بحسب عوامل عديدة، منها السِّنِّ، والحالة الصحية العامة، والفروق الفردية، ومن مجتمعٍ إلى آخر، بحسب عوامل عديدة أيضًا، منها الظروف المناخية وإمكانيات الدولة وواقع قطاع الخدمات الطبية، وما إلى ذلك.
في هذه الحالة، تتنحى الطبيعة الصارمة والمحددة للعلوم الطبية، لصالح الطابع المتغيِّر وغير الثابت لطبيعة الظاهرة الإنسانية.
وهذه الطبائع، ما بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، هي في جوهر فلسفتها، من قوانين العمران التي وضعها اللهُ عزَّ وجلَّ في خلقه، ولا يمكننا بحالٍ تبديلها، وإنما نتعامل معها وفق سُنَّة أو قانون التسخير الذي مكَّننا اللهُ تعالى بموجبه من التحكُّم في الظواهر المحيطة بنا، لتيسير وتسيير سُبُلَ عَيشنا في هذه الأرض إلى أنْ يشاء السميعُ العليمُ.
وتُعتَبر أسبقيَّة أثر الظاهرة الإنسانية على الظواهر الطبيعية، من ضمن قانون التسخير؛ حيث مِن دونه لن تُقام الحُجَّة على الناس يومَ الحساب فيما استخلفهم اللهُ تعالى فيه من أماناتٍ وما مكَّنهم فيه مِن إمكاناتِ عَيْشٍ.
ولقد شاءت حكمة الخالق عزَّ وجلَّ، أنْ تكون قوانينه هذه ساريةً على الناس والمخلوقاتِ كافَّة، ولا مُحاباة فيها للمسلم على غيره، أو لشؤون الدعوة على ما عاداها من أنشطةٍ إنسانيةٍ أخرى؛ حيث اللهُ تعالى هو الحَكَمُ العَدْلُ بين خلقه، وهو العليمُ الخبيرُ بما خَلَقَ.
ومن بين ما يتصل بهذا الأمر من قوانين، قانون الملائمة؛ حيث إنَّ لكُلِّ مقامٍ مقالٌ وفعلٌ، بحسب الظرفية، وبحسب طاقة الاستطاعة وعوامل أخرى كثيرة.
وهذا لا يعني فشل طريقة لحساب أخرى، وإنَّما يتعلَّق الأمر بمدى ملائمة الطريقة للموقف.
ويمكن شرح ذلك ببعض المنطق البسيط؛ حيث لا يمكن للإنسان غَلق قلمٍ حبر بغطاء زجاجة مياه، برغم أنَّ القلم سليمٌ، وفاعلٌ وكفؤ في أداء مهمته؛ الكتابة، وأنَّ غطاء الزجاجة، سليمٌ بدوره، ولكنه لم يُصنَع –"يُخلَق"– لملائمة رأس القلم، وإنما هو فاعلٌ وكفؤٌ فيما تمت صناعته لملائمته، وهو إغلاق زجاجة المياه.
وبتطبيق هذه الفلسفة، أو جوهر هذا الحديث ومنطقه العام على طرائق العمل الدعوي، سوف نقفَ أمام الكثير مِن الإشكاليات الحاصلةِ في هذا الصدد من جانب المجموعات العاملة في حقول العمل الدعوي المختلفة ومساحاته العديدة.
فَبالنَّظرِ إلى ما يتم عبر العالم مِن القائمين على هذا الأمر، نجدُ مشكلةً مهمةً ربما كانت هي جذر عدم الفاعلية في كثيرٍ مِن الأحيان عن تحقيق المُراد في مجتمعات الدعوة المختلفة، وهي مشكلة سيادة نمط واحدٍ وتقليديٍّ على آليات العمل الدعوي.
توجد مشكلةً مهمةً ربما كانت هي جذر عدم الفاعلية في كثيرٍ مِن الأحيان عن تحقيق المُراد في مجتمعات الدعوة المختلفة، وهي مشكلة سيادة نمط واحدٍ وتقليديٍّ على آليات العمل الدعوي
فلا نرى سوى منظومةٍ معتادةٍ من الأنشطة، تتشابه في كل المجتمعات تقريبًا، سواء أكانت مجتمعات متقدمة في المجال الحضاري وتعمل بآفاق التقنية الرقمية ومفاهيم الثورة الصناعية الرابعة، أو كانت مجتمعات متخلفة حضاريًّا، ولا تعرف حتى منظومات التعليم في أبسط صورها، ولا يوجد فيها حتى شبكات للإنترنت أو اتصالات رقمية.
ربما كان الاستثناء الوحيد الذي يتم، ويتم في الغالب في القارة الأفريقية، في البلدان الأكثر فقرًا جنوب الصحراء؛ حيث يكون لجهود العمل الإنساني والإغاثي، مثل إقامة كتاتيب ومدارس أو مستشفيات ومراكز صحية أو حفر آبار في المناطق الأكثر فقرًا؛ يكون لها حضورًا.
بخلاف ذلك؛ فإنَّ الآليات واحدة بين بلدان أمريكا الشمالية وأوروبا، وبين بلدان آسيا وأفريقيا الفقيرة، وحتى اليابان.
يأتي ذلك برغم أنَّ الاختلافات لا تقف فقط عند مستوى التبايُن في المستوى الاقتصادي والاجتماعي، والحضاري بشكل عام، وإنما حتى في طبائع التفكير والثقافات الموجودة.
فحتى بالمقارنة بين بلدٍ مثل ألمانيا وبلدٍ آخر مثل اليابان، في ذات المستوى الاقتصادي والتقدم في المجال التقني والتعليمي والثقافي؛ فإنَّ هناك اختلافات كبيرة للغاية بين الشعبَيْن الألماني والياباني في الطبائع الأساسية المتعلقة بنمط التفكير والثقافة المجتمعية والهوية بشكل عام، مما يجعل – بالتالي – هناك خلاف كبير في طرائق مخاطبة وتلقِّي الفرد/ المجتمع في اليابان وفي ألمانيا.
ولكن ما يتم في الغالب؛ تنظيم جولات دعوية، وترجمة معاني القرآن الكريم، وكتبٍ الحديث النبوي الشريف إلى اللغة المحلية، والدعوة إلى بعض الفعاليات في المراكز الثقافية الإسلامية.
وحتى فيما يتم اختياره من كتب التفسير والفقه التي يتم ترجمتها، تقف عند حدود بعض المدارس الحركية والفقهية دون الأخرى، وقد يكون بها بعض الأمور غير المتوافِقة مع طبيعة الثقافة المجتمعية السائدة، أو لا يوجد فيها ما يجيب عن الأسئلة التي تطرحها أحوال هذه المجتمعات وقضاياها الأساسية.
فلا يمكن بحال أنْ تكون القضايا التي بحاجة إلى تأصيلٍ فقهيٍّ في بلدٍ مثل السويد أو النرويج، مماثلة لما يجب أنْ يتم الإجابة عليها في مجتمعٍ مثل مالي أو السنغال، فقضية الاختلاط وأحكامها على سبيل المثال، لا مجال للحديث عنها من الأصل في مجتمعات محافِظة بطبيعتها، بينما هي من أهم ما يمكن في المجتمعات ذات الطابع المنفتِح وتسوده قيم الحرية الفردية.
لا يمكن بحال أنْ تكون القضايا التي بحاجة إلى تأصيلٍ فقهيٍّ في بلدٍ مثل السويد أو النرويج، مماثلة لما يجب أنْ يتم الإجابة عليها في مجتمعٍ مثل مالي أو السنغال
هذا الفهم أو المدرَك، لا نجده في مدركات الكثير مِن العاملين في حقول العمل الدعوي المختلفة. صحيحٌ أنَّ هناك تحولات كبرى في نمط الخطاب والأنشطة الدعوية، والآليات المُستخدَمة، إلا أنَّها لا تستجيب بالشكل الكافي للتباين الكبير القائم بين المجتمعات الإنسانية المختلفة، وحتى داخل البلد الواحد، وحيث لا تشكِّل التقنية الحديثة المعضلة الوحيدة أو تشكِّل مشكلةً مِن الأصل، وتظل الطبائع الإنسانية هي أساسٌ مهم للاختلاف والتباين.
ففي الولايات المتحدة؛ حيث نظرية الأواني المستطرقة تلعب دورها في نقل التكنولوجيا ومستويات المعيشة بالصورة المثلى العادلة بين مختلف الولايات والمجتمعات المحلية هناك، لكن مِن المستحيل أصلاً مقارنة طبيعة تفكير وثقافة مجتمعات الجنوب الأمريكي مع ولايات الغرب والغرب الأوسط أو ولايات الساحل الشرقي مثلاً.
ومن دون الخوض في تفاصيل كثيرة؛ فإنَّ هذا الاختلاف حاكم بالفعل في قضية هوية المجتمعات المحلية، وخصوصًا نقطة قد لا يلتفت إليها الكثير من الدعاة والمراكز الإسلامية، وهي طبيعة العقائد والأفكار السائدة.
فمناطق مثل ولاية تكساس من الصعب للغاية العمل فيها؛ حيث هي مجتمع من المحافظين المتدينين، والكنيسة المعمدانية هناك قوية ونافذة، بخلاف ما يمكن أنْ نجده في ولاية مفتوحة مثل نيويورك؛ حيث تنتشر الأفكار الإلحادية، والاتجاهات اللادينية، والفلسفات الوضعية كعقائد هناك، وهي بيئة أكثر سهولة في التعامل معها مِن البيئات المنغلِقة أو المحافِظة، ويوجد فيها كنائس قوية.
وهكذا؛ فإنَّ هناك ضرورة لتحديث العمل الدعوي، بحيث يدخل فيه متخصصون في مجال الدراسات الاجتماعية والجغرافيا البشرية، بحيث يكون هناك فهمٌ أكبر وأعمق للمجتمعات التي تنشط فيها الدعوة الإسلامية.