سورة لقمان هي سورة الحكمة، وأول آياتها تصف القرآن الكريم أنه كتاب حكيم (الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) ومعنى كتاب حكيم: آياته محكمة صدرت من حكيم خبير(تفسير السعدي) أو حكيم مُحكَم لا خلل فيه ولا تناقض (تفسير القرطبي) أو حكيمٌ بياناً وتفصيلاً أي حكيم في ألفاظه وأحكامه (تفسير الطبري) وكل هذه المعاني تتكامل ولا تتناقض، لتثبت الحكمة في اللفظ والمعنى لهذا القرآن الكريم .
فمن أوتي الحكمة، آمن بهذا الكتاب، فكان له هدى ورحمة (هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) ومن أعرض عن الحكمة التي فيه، واستبدل به لغو الحديث، استحق العذاب المهين (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) وتأمّل وصف العذاب بأنه مهين - ولا عجب - فمن ترك الحكمة ولم يتحلّى بها أصابته المهانة والهوان .
وأما لغو الحديث فيدخل فيه كل قولٍ لغْـوٍ أو فكرٍ فاسدٍ يقصده أهل الباطل ليصدوا الناس به عن القرآن ووحي الرحمن، ويدخل في ذلك كل الأفكار الهدّامة أو المذاهب الباطلة التي يزيّنها أصحابها للناس ويدعونهم إليها لتكون بديلا عن وحي السماء ومنهج القرآن . ولعل كلمة (يشتري لهو الحديث) تؤكد جدّ هؤلاء القوم في باطلهم، وكيف يبذلون من أموالهم وأوقاتهم للصدّ عن سبيل الله .
وفي الأية إشارة أنّ القلب لا يجتمع فيه أمران، فإما لغو الحديث - وهو الباطل - وإما أحسن الحديث - وهو القرآن -، فقلبك إن لم تملأه بالحق، ملأته الشبهات والشهوات .
والحكمة ضالّة المؤمن، أنّى وجدها فهو أولى الناس بها، وهي منّة من الله تعالى يهبها لمن يشاء من عباده، يدل على ذلك لفظة "آتينا" في قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) ولأنها نعمة فهي تستوجب شكر الله عليها (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).
والحكمة وضع الأشياء في نصابها، وتقدير الأمور بقدرها، واتخاذ القرارالمناسب في الظرف المناسب، وتظهر علاماتها في منطق الرجل وعمله، ومن وُفق إليها فقد أوتي خيراً كثيرا. وليس حكمة أعظم من الإحسان في القول والعمل الذي ركزت عليه الآيات في السورة، فهي من أولها تصف من يؤمن بهذا القرآن بالمحسنين (هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) وفي أواخرها تأمربالإحسان وتحضّ عليه، وتصفه بالعروة الوثقى التي من تمسّك بها نجا وأفلح (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).
وكيف لا تكون سورة لقمان سورة الحكمة، وقد ورد فيها وصية لقمان الحكيم، وهي جملة من الوصايا فيها من الحكمة ما فيها، وهي التي تبدأ برأس الحكمة ألا وهي توحيد الله وعدم الشرك به (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، ثم الوصية ببرّ الوالدين - بعد الله - لما لهما من الفضل والكرامة (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)، ثم يتبع ذلك وصايا تعبديّة كالصلاة (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ) ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولأنّ من يقوم بالنصح والدعوة غالبا ما يتعرض للأذى بالقول أو الفعل جاء بعدها الأمر بالصبر (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) ثم يتبع ذلك وصايا سلوكيّة، كالتواضع وعدم التكبّر، وخفض الصوت والاعتدال في المشي ليجتمع حسن المظهر مع حسن المخبر، ولعلّ الجمع بين الوصايا التعبديّة والوصايا السلوكية تأكيدٌ على أنّ هذا الدين لا ينحصر في شعائرتعبديّة بين العبد وربّه، بل يمتد أثره ليظهر في الواقع سلوكاً محترماً وأخلاقاً راقية، فكيف يجتمع الايمان في قلب امرىءٍ مع الكبر، وكيف يكون مؤمنا من يحتقر الناس، فيصعّر وجهه إليهم، ويرفع صوته عليهم؟
ثم تعرض السورة مشاهد من الحكمة، يتجلّى فيها إبداع الله في خلقه، وإتقانه في صنعه، فتتحدث السورة عن خلق السماوات والأرض في أربعة مواضع وبأساليب مختلفة، فأما الموضع الأول يتحدّث عن الإبداع في خلق السماوات والأرض (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) والموضع الثاني يتحدث عن تسخير ما في السماوات والأرض لك أيها الانسان (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) والموضع الثالث يتحدث عن ملك الله المطلق لما في السماوات والأرض، وغناه سبحانه عمّن سواه (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وأما الموضع الرابع، ففيه يسأل ربّنا أولئك الكافرين المشركين سؤال تقرير وتوبيخ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
ثم تذكر السورة آيات أخرى في خلق هذا الكون، مثل تعاقب الليل والنهار و جريان الشمس والقمر (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) وإنزال المطر (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) و بعدها جريان الفلك في البحر (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ) ومن ثم القدرة على الخلق وبعث الخلائق جميعها يوم القيامة وكأنها نفس واحدة وأن ذلك على الله يسير (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) وبعد هذا العرض المبدع والمقنع على تفرّد الله وحده بالربوبيّة والألوهية في هذا الكون، يأتي التحدّي المعجز الذي لا يقوى عليه أحد (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
فكيف يستوى بعد ذلك من يعبد الله، ومن يعبد معه أومن دونه آلهة أخرى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ).
وتتميز السورة بخطاب الحكمة، وهو الخطاب الذي يوجهه الله تعالى لأولئك الكافرين والمشركين ليقيم عليهم به الحجة والبرهان فيقول لهم (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ).
أم هو التمسك بموروث الماضي وإن كان باطلا، والتعصب لدين للآباء والأجداء وقد تبيّن لكم أنه ليس بحق (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ).
أم هو التنكّر للفضل، وجحود المعروف (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ).
لكنْ مثل هؤلاء، يعرفون الحق ويعرضون عنه، وسيبقون في متعتهم وغفلتهم حتى تأتيهم الساعة، فيكون مصيرهم إلى عذاب شديد (وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ).
ومن حكمة الله التي تؤكدها الآيات، علم الله المطلق، فلا تكون حكمة بغير علم، فما من صغيرة ولا كبيرة في الأرض ولا في السماوات إلا تقع بعلمه سبحانه (إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) وأمّا كلمات الله وحِكَـمه فلا تنفد ولا تنتهي، ولو أُريد كتابتها فلن تُحصى، ولو استحالت بحار الأرض مدادا ً وأشجارها أقلاماً (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
وأمّا ختام السورة فيصوّر مشهداً من مشاهد البعث والحساب، فليس من الحكمة أن تستوي الإساءة مع الإحسان، ولا أن يستوى المؤمن و الكافر، فكلٌّ يبعث يوم القيامة، ويحاسب على عمله، ولن ينفع أحدٌ أحداً، او يُغني أحدٌ عن أحد حتى الوالد عن ولده، ولا الولد عن والده، والحكيم هو من لم تغرّه الحياة الدنيا فانتصر في معركته مع الغرور وهو الشيطان (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).
ألا وإنه من تمام الحكمة، أن لا ينشغل الإنسان بما لا يستطيع الاحاطة بعلمه، فيسلّم لله فيما لا يعلم، ويجتهد فيما يعلم، فيؤدي ما عليه، ويعدّ العدة للقاء الله، ويأخذ بالأسباب ويدع النتائج لرب الأرباب فهو العليم بعمله والخبيربحاله ومآله (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
هذا والله أعلم