على الاعتراف بوجود تطورٍ كبيرٍ حاصلٍ في مجال الخطاب الدعوي وأساليبه، إلا أنَّه يظل أنَّ الجوهر الذي يقوم عليه هذا المنطق، ومحتوى الخطاب الدعوي، لا يزال أسيرًا لتصوراتِ عصورٍ ماضيةٍ، خاصةً في المجتمعات التي يتم فيها دعوة غير المسلمين إلى الإسلام.
فنجد أنَّه قد تمَّ بالفعل بإدخال وسائل التقنية الحديثة على أدوات الدعوة وتعليم المسلمين الجُدد مبادئ الإسلام الأساسية، وكل ذلك؛ لكن يبقى الجوهر هو ذاته؛ حيث لا تُوجد – على سبيل المثال – إجابات على كثيرٍ من الأسئلة المهمة التي تراعي عددًا من الاعتبارات الواجب مراعاتها، وإلا كانت الجهود الدعوية كحَرثِ البحر.
منها مثلاً؛ طبيعة خصوصية المجتمعات، والقضايا التي تشغلها، وبالذات في المجتمعات المتقدمة في مجال التعليم والثقافة العامة والتأهيل الفكري للمواطنين فيها، أو تباين المنظومة المجتمعية القائمة ومرتكزاتها.
فنكرر مشكلة حقيقية ما نفتئ نذكرها في كثيرٍ من مواضع الحديث، وهي أنَّ الخطاب الدعوي بالفعل قاصرٌ على المحتوى التراثي التقليدي، بينما لا نجد الكثير من الدراسة لأفكار الفلسفات القائمة التي تحل محل الدين في كثيرٍ من المجتمعات، ونكتفي بتوجيه الناس إلى الحلال والحرام، والعبادات وقواعد الطهارة وما إلى ذلك، من دون مناقشة أفكارهم نفسها.
لا نجد الكثير من الدراسة لأفكار الفلسفات القائمة التي تحل محل الدين في كثيرٍ من المجتمعات، ونكتفي بتوجيه الناس إلى الحلال والحرام، والعبادات وقواعد الطهارة وما إلى ذلك، من دون مناقشة أفكارهم نفسها
وهذا أمرٌ غير منطقي؛ فكيف أدعو الناس إلى دينٍ جديدٍ، بينما أنا لم أناقش ما يؤمنون به من عقائد وأفكار وفلسفات. كيف سوف أنقضها إذًا؟!.. كيف سوف أقنعهم أنَّ ما أقوله هو الحق والصحيح من المعتقدات؟!.. كيف أقدِّم لهم البديل من الإسلام لما هم بحاجةٍ إليه.
وربما أهم خصم لم نلتفت إليه في هذا الصدد، أفكار الفلسفات الوجودية وأسئلتها الكبرى، وكذلك فلسفات السلام والأمان النفسي التي ظهرت في كثير من المجتمعات التي يسكنها الآن مليارات البشر، مثل مجتمعات آسيا الجنوبية والشرق الأقصى، بسبب طول أمد الصراعات التي شهدتها هذه المناطق، والحجم المهول للدماء التي أريقت والأرواح التي أزهِقَت هناك عبر تاريخها.
ومع اشتراك ذلك الحال مع عصر تقدم العلم؛ نجد أنَّ المهمة أكبر وأصعب في المجتمعات الغربية والمشرقية التي تقدمت في المجال العلمي؛ حيث من الضروري واللازم لإقناع أي شخصٍ هناك، أنْ تنطلق من قاعدة العقل، والتوفيق بين العلم –الذي هو من الأصل أداة لاكتشاف قوانين خَلق اللهِ تعالى في أنفسنا، وفي الطبيعة– وبين الدين وقواعده ومقولاته المركزية.
وللأسف الشديد؛ فإنَّ هناك بعض الأحداث التي جرت مؤخرًا، أثبتت سيطرة مبدأ "التسليم والإذعان" على كل النقاشات ومنطق الحديث لدى شريحة كبيرة من الدعاة والمفكرين المسلمين والعاملين في حقول العمل الدعوي المختلفة، بصورةٍ عقيمةٍ كالعادة، مِن دون تدبُّرٍ، ومِن دون النَّظر إلى الاعتبارات التي تحكم تطبيق مبدأ التسليم والإذعان كقاعدةٍ عقدية مركزية.
ومن ضمن هذه الأحداث؛ النقاش المعتاد الذي يقع مع تغييب الموت لشخصية جدلية أو وقفت على النقيض من الخطاب الإسلامي ومركزياته وقواعده.
وإذا ما استثنينا مرضًا آخر عند الكثير من الدعاة وعوام المسلمين، في مثل هذه الأحوال، وهو الانخراط في خطاب السَّبِّ أو اللعنِ فحسب، باعتباره "واجبًا شرعيًّا" – يقعون في ذلك في جريمةٍ كبرى، وهو الاستناد إلى نصوصٍ من دون النظر إلى باقي الاعتبارات، مثل المصلحة والموازنات، بل وإلى نصوص أخرى مفترض وضعها في الصورة الأشمل – مِن دون مناقشة الأفكار أو غيرها.
وعند مناقشة هؤلاء؛ يبرزون لك "الكارت الأحمر" – بلُغَة أهل كرة القدم – وهو: التسليم والإذعان، ويرددون ذلك كالببغاوات، مِن دون أي فهمٍ أو تفكيرٍ في سياقات هذا المبدأ، وفي ظل كونه يتصل بحرجٍ كبير، وهو التكفير والخروج عن المِلَّة حال إنكاره؛ فإنَّ الكثيرين، وجاءةً، ينفضون أيديهم من النقاش.
الحقيقة أنَّنا وصلنا إلى مرحلة كبيرةٍ من التخلف والارتكاس على مبادئ مهمة أخذ بها الأوَّلون في عصور التنوير الإسلامية، وحتى بعض مِمَّن يُتَّهمون بـ"التطرف" و"التشدد"، وما إلى ذلك، مثل الإمام ابن تيمية؛ كانوا على أكبر إدراكٍ له، وهو ضرورة التوفيق بين العقل والنقل.
فابن تيمية نفسه، برغم كُل ما يُنسَب له، وبرغمِ كل ما وجده المحدثون مِن مشكلات في كثيرٍ مِن فتاويه، بالنظر إلى سياقاتها التاريخية وكونها كانت فتاوى لحالٍ استثنائية؛ إلا أنَّه – ويشترك في ذلك معه كثيرٌ من فقهاء وعلماء المسلمين وأئمتهم المعتبرين عبر التاريخ، مثل الأئمة أبو حنيفة والشافعي والشاطبي – أكدوا على ضرورة تبني منهج يوازن ويوافِق بين العقل والنقل.
وهذا أمرٌ بالفعل، هو الفيصل بين النجاح أو الفشل في خطاب الدعوة ومحاولات إقناع غير المسلمين للدخول إلى هذا الدين، أما الوقوف عند حد عبارة "التسليم والإذعان"؛ فهذا هو عين الحماقة بالذات في تاريخنا المعاصِر.
وللإمام ابن تيمية في هذا المجال، كتابٌ مهمٌّ للغاية، وهو "درء تعارُض العقل والنقل"، ويوازي في أهميته في مجال هذا الحديث، كتاب "الموافقات" للإمام الشاطبي، وكلاهما بالفعل ينقل وظيفة الفتوى والفقه والعمل الدعوي إلى أفقٍ أكثر نجاحًا بشكل لا يمكن مقارنته بجهود مدارس الجمود العقلي.
وأهمية هذا الكتاب في أنَّه يناقش في كثيرٍ من فصوله، قضايا كبرى لا نلتفت إليها في منهجنا الدعوي في العصر الحديث، وأهمها هذا الذي نقول، فيما يتعلق بطرق معرفة اللهِ تعالى وحديث الفطرة وما يتصل بأفكار وهواجس ربما هي الأهم لدى الملحدين والوجوديين في عصرنا الحديث.
والأهم، هو أنَّ ابن تيمية يستند في ذلك إلى القرآن الكريم مِن دونِ التوسُّع حتى في الجانب الفكري الذاتي، أي أنَّ الرجلَ يقول لنا، إن الإسلام والقرآن الكريم، جاء بالأجوبة على كل الأسئلة الكبرى، وليس لنا حاجةً لأية فلسفات وضعية أو الضلال في تيه الإلحاد والوجودية.
إننا في عصرنا الحالي، بحاجةٍ إلى دُعاةٍ يفهمون منطق العلم، ويتابعون المكتشفات العلمية، وكذلك يفقهون في الفلسفة ومدارسها المختلفة لأنَّ الفلسفة في كثيرٍ من الأحيان، تكون دينًا لصاحبها، ولكننا نقف في تصورنا لمجتمعات الدعوة، مجتمعات أهل الكتاب، وتلك المجتمعات التي لا تؤمن بوجود اللهِ تعالى، بينما نهمل تمامًا دراسة الفلسفات التي تمثِّل الآن الرافد الثالث لأكثر الديانات انتشارًا.
فالمؤمنون بفلسفات كونفوشيوس وبوذا وزِن والوجودية، ويتخذونها دياناتٍ لهم، تعدادهم يفوق تعداد المؤمنين بالديانات المُنزَّلة من عند اللهِ تعالى؛ فتعداد المسلمين والمسيحيين واليهود، لا يتجاوز بحالٍ الثلاثة مليارات إنسان، بينما نجد أنَّ هذه الفلسفات في بلدانٍ ثلاثةٍ فقط، هي الصين والهند واليابان، يفوق المعتقدون فيها، حاجز الثلاثة مليارات ونصف الميار إنسان.
ويعود ذلك إلى فهمٍ خاطئ لقضية الحرج الشرعي التي غرسها بعض الفقهاء والمدارس الإسلامية الذائعة الصيت والتأثير عبر التاريخ، عن الفلسفة، والخلط بين نقطة أهمية دراسة الفلسفة وضرورة النظر فيها، وبين الإيمان بها على حساب العقيدة الإسلامية.
والغريب أنَّنا لا نلتفت في ذلك إلى نقطة شديدة الأهمية، وهي أنَّ هناك مسلمين جُددًا بالفعل دخلوا الإسلام من بوابة الفلسفة. هم كانوا يؤمنون بالوجودية، أو يسعون إلى تحقيق السلام النفسي، فوجدوا في الإسلام إما إجابات على الأسئلة الكبرى للفلسفة الوجودية، أو ملاذًا للسلام النفسي وراحة النفس في مواجهة العالم الوحشي الذي نعيش فيه.
إنَّ هؤلاء هم أهم ما ينبغي لنا دراستهم والحديث معهم؛ لأنَّهم سوف يمنحوننا مفاتيح فهمٍ أعمق لما نحن بصدد مواجهته في المجال الدعوي، وكذلك كيفية مواجهته والحديث فيه.
إنَّ هذه كلها قناعات يجب علينا أنْ نوجِّهَ دُعاتنا وفقهاءنا إليها إذا ما أردنا أنْ يستمر تيار العمل الإسلامي في السير والإثمار.