ألا تَسْتَنْصِرُ لنا! (1-2)

الرئيسية » بصائر تربوية » ألا تَسْتَنْصِرُ لنا! (1-2)
ألا-إن-نصر-الله-قريب..

إن طريق المؤمنين إلى الله تعالى ليس بالسهل المفروش بالورود، وإلا لسلكه الكسالى، ولتسارع إليه أصحاب الهوى، ولكنه طريق شاق كثير العقبات والمَلمَّات، كثير التكاليف، يحتاج إلى همم تناطح الجبال، وأنفس تواقة تستعصي على الترويض ولا تقبل المساومة ولا ترضى بالضَّيم، مهما كلفها ذلك من تضحيات.

عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: "شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ ﷺ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" (صحيح البخاري).

ويصف الإمام ابن القيم هذا الطريق فيقول: "يا مُخنَّثَ العزم أين أنت، والطريقُ طريقٌ تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمِي في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضرَّ أيوب، وزاد على المقدار بكاءُ داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد ﷺ ، تزها أنت باللهو واللعب".

ولصعوبة الطريق ومشقته وعد الله تعالى عباده المؤمنين بأن يتولى أمرهم وأن ينصرهم على عدوهم، وألا يجعل لأهل الباطل عليهم سبيلاً.

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}‏ [الحج:38].

أولاً: تساؤلات على الطريق

ربما يقول قائل

- أين دفاع الله عن الذين آمنوا وسط كل هذه الانتهاكات الصارخة، وهذا الظلم البيِّن، وهذا الفجور والتجبر من أعداء الله!!

- وأين دفاع الله تعالى والأعراض قد انتهكت، والحرمات قد استبيحت، والكرامة قد دِيْسَت، والأبدان قد مُثل بها وقد حُرِّقت!!

- وأين دفاع الله تعالى عن هؤلاء الشيوخ الرُّكع، والأطفال الرُّضع!!

- وأين دفاع الله وقد أنهِكنا من العبادة ومن الدعاء!!

* وغير ذلك من الأسئلة الأخرى التي لا تنتهي ولا يتوقف السائرون على الطريق عن ترديدها، خاصة كلما استأسد الباطل وتبجح، وكلما زاد الخناق على أهل الحق.

وللرد على هذه التساؤلات نقول .. وبالله التوفيق:

- ألا يُعد ثباتك على الحق وسط كل هذه الأهوال والأهواء والمغريات نصراً؟
بالطبع نعم!

فمن ذا الذي ثبَّتك وقوَّاك وأيَّدك وحمَاك؟
هل هي نفسك الأمارة بالسوء! أم أنه الله تعالى؟؟

- ألا يُعد اقتناع مُعظم من حولك أنك على الحق، وأنك لا تستحق كل ما تتعرض له من ظلم، نصراً!!

* إن الله تعالى قد أخضع للحق ألسنة من شهدوا له.. ومن خضع لسانه فقد أوشك قلبه وقالبه أن يخضعا!!

إن الله تعالى قادر على أن يُخضع قلوب وأبدان العباد للحق عُنوة بآية من آياته، كما حدث في غزوة الخندق! ولكن كما يقال أن "زمن المعجزات قد انتهى"، ولو نزلت آية أو معجزة الآن لقال أهل الباطل ومن يوالونهم أن (الظروف) قد قهرتهم، ولقالوا أن (الظروف) قد خدمت أهل الحق!! وما اعترفوا بما حدث على أنها آية من آيات الله، والله تعالى يريد أن يكون انتصار الحق وأهله أبيضاً ناصعاً واضحاً لا شائبة فيه ولا غموض ولا جدال.

* إن المطلوب من أهل الحق بعد الإخلاص والثبات هو الأخذ بكل الأسباب المادية والمعنوية لاستجلاب النصر، والأخذ بزمام المبادرة.

إن المطلوب من أهل الحق بعد الإخلاص والثبات هو الأخذ بكل الأسباب المادية والمعنوية لاستجلاب النصر، والأخذ بزمام المبادرة

قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة:14].

* والمطلوب من أهل الحق كذلك هو أن يفهموا معنى النصر بمفهومه الشامل في ضوء ما تم ذكره.

والمطلوب من أهل الحق أن يُحققوا في أنفسهم شروط وصفات المؤمنين الذين يستحقون نصر ربهم !

فكما أن الأب لا يُعطي ما غلي ثمنه لطفل لا يُدرك قيمته ولا يقدِّره حق قدره، فكذلك الله تعالى لا يُعطي النصر لأمة لا تعرف قيمته ولا تقدِّره حق قدره، ولله المثل الأعلى!

وكما أن الأم تتلهف على رؤية جنينها الذي في بطنها إلا أنها تأبى أن تضعه قبل موعده بيوم واحد خوفاً عليه أن يصيبه مكروه، ولله المثل الأعلى!

* إننا لو آمنا بربنا كما أمر ربنا وكما يحب ويرضى، ما جعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً، ولكان الله معنا، ولأيدنا بنصره، ولكننا للأسف لم نرتق إلى المرحلة المطلوبة للإيمان، كما قال تعالى: {وما كان أكثرهم مؤمنين}.

ثانياً: حوار ابنة هولاكو وأحد علماء بغداد

يٌحكى أن ابنة هولاكو زعيمِ التتار كانت تطوف في بغداد فرأت جمعاً من الناس يلتفـون على رجل منهم، فسألت عنه… فإذا هو عالم من علماء المسلمين، فأمرت بإحضاره، فلما مثُل بين يديها سألته: ألستم المؤمنين بالله؟
قال : بلى.
قالت: ألا تزعمون أن الله يُؤيد بنصره من يشاء؟
قال : بلى.
قالت: ألم ينصرنا الله عليكم؟
قال: بلى.
قالت: أفلا يعني ذلك أننا أحب إلى الله منكم؟
قال: لا.
قالت: لِمَ؟!
قال: ألا تعرفين راعي الغنم؟
قالت: بلى.
قال: ألا يكون مع قطيعه بعض الكلاب؟
قالت: بلى.
قال: ما يفعل الرَّاعي إذا شردت بعض أغنامه، وخرجت عن سلطانه؟
قالت: يُرسل عليها كلابه لتعيدها إلى سلطانه.
قال: كم تستمر في مُطاردة الخراف؟
قالت: ما دامت شاردة.
قال: فأنتم أيها التتار كلاب الله في أرضه وطالما بقينا شاردين عن منهج الله وطاعته فستبقون وراءنا حتى نعود إليه جل وعلا.

ثالثاً: فهم المسلمين الأوائل لطبيعة الصراع بين الحق والباطل

جاء في كتاب "فتوح مصر وأخبارها": عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: لما أبطأ على عمر فتح مصر كتب إلى عمرو بن العاص: أما بعد: فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر.. وما ذاك إلا لِمَا أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تعالى لا ينصر قوماً إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجَّهت إليك أربعة نفر وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما أعرف؛ إلا أن يكون غيرهم ما غير غيرهم. فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحضَّهم على قتال عدوهم ورغبهم في الصبر والنية، وقدِّم أولئك الأربعة في صدور الناس، وأمر الناس أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزَّوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة ووقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله وليسألوه النصر على عدوهم.

فلما وصل الكتاب إلى عمرو جمع الناس وقرأه عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا ويُصلوا ركعتين ثم يرغبون إلى الله ويسألونه النصر ففتح الله عليهم" اهـ.

* والأربعة نفر هم: "الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد" رضي الله عنهم أجمعين.

رابعاً: رجل بألف رجل

كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول عن الصحابي الجليل القعقاع بن عمرو رضي الله عنه: "صوته في الجيش خير من ألف رجل".

وكان لا يُهزم جيش يحارب فيه القعقاع، غنم في فتح المدائن أدرع كسرى وسيفه، وكان يتقلده في أوقات الزينة، وكانت كتيبته التي يقودها تُسمى (الخرساء).

ذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة، والطبري في تاريخه، وابن الأثير في الكامل أن عمر رضي الله عنه قال في القعقاع بن عمرالتميمي: "لا يهزم جيش فيهم مثله".

أرسله سيدنا عمر إلى سعد عندما طلب المدد، وقال "لا يهزم جيش فيه مثل هذا".

وكتب سعد عنه لعمر فقال: "لم أر مثل القعقاع حمل يوماً ثلاثين غارة، يقتل في كل غارة فارساً من فرسان الفُرس المشهورين".

* إن شهادة كبار الصحابة للقعقاع رضي الله عنه من المؤكد أنها لم تبنى على صفات ومؤهلات بدنية فقط.. وإلا لبالغوا في وصفها، ولكنها بُنيت على يقين راسخ لا يتزعزع، وإيمان قوي لا يلين، وعزيمة لا تخور، ونفس لا يتسرب إليها يأس، وهمَّة لا تعرف المستحيل.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

كيف يناقش الأب ابنته في مسائل الحب والمشاعر العاطفية؟

عادة ما تثير الحوادث التي تتعلق بانتحار الفتيات أو قتلهن كضحايا لقصص حب أو علاقات …