كانت السلطة التشريعية في عصر النبوة محصورة في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده لا يشاركه فيها أحد من الأمة، ما دام الأمر متعلقا بالتشريع والأحكام ومسائل الحلال والحرام؛ لأنه كان يتلقى الوحي من الله تبارك وتعالى ويقوم بتبليغه والإعلام به وتطبيق أحكامه، ومع كون السلطة التشريعية في عهده صلى الله عليه وسلم متمركزة من الناحيتين العضوية والموضوعية في يده وحده، إلا أنه فيما لا يتصل بالتشريع وبالحل والحرمة كان يستشير فيه طوائف من أصحابه من ذوي الرأي.
وعندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتقلت السلطة التشريعية بعد وفاته إلى المجتهدين من الصحابة، وسلطانهم في التشريع مرتبط بأمرين، الأول: فهم النص وبيان الحكم الذي يدل عليه، والثاني: قياس ما لا نص فيه على ما فيه نص بواسطة الاجتهاد وتخريج العلة، وبذلك تخالف السلطة التشريعية في عهد الصحابة السلطة التشريعية التي تضع القوانين في الأمم الأخرى؛ إذ الثانية في منتهى الحرية في وضع القوانين أو تفسيرها أو إلغائها أو تعديلها.
أما الأولى فهي مقيدة بالنصوص الشرعية وبالقواعد والمقاصد الشرعية، ودائرة في عملها تحت سيادة الشرع، ومع اختصاصهم بالتشريع كانوا يشيرون على الخليفة مثلما يشير عليه سائر الكبار من أهل الحل والعقد، وذلك فيما لا يدخل في الحل والحرمة من أمور الرأي والحرب والمكيدة والمسائل المتعلقة بتدبير الشأن العام.
وقد كان الخليفة يشارك السلطة التشريعية في استخلاص الأحكام، لأنه كان من جملة المجتهدين، وكان أحيانا يعمل بما أدّاه إليه اجتهاده ما لم يحل بينه وبين العمل به ظهور رأي جماعة المجتهدين عليه، وإذا كان من حق الخليفة أن يجتهد برأيه فيما يعرض من مسائل، فإنه يجتهد بوصفه من المجتهدين لا بوصفه رئيسا للسلطة التنفيذية، كذلك القاضي الذي تتوفر فيه صفات الاجتهاد، فهو إن حكم برأيه فإنما يجتهد بوصفه من المجتهدين لا بوصفه من أعضاء السلطة القضائية.
روى أبو عبيدة في كتاب القضاء عن ميمون بن مهران قال "كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يُقضى به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وجد فيها ما يُقضى به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون قضى فيه بكذا أو بكذا، فإن لم يجد سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيه على شيء قضى به وكان عمر يفعل ذلك".
فرجع الخليفة إلى المجتهدين لسؤالهم عن علم علموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة المعروضة، ثم لاستشارتهم فيما لم يرد فيه نص يعتبر ردا على السلطة المختصة، أما اجتهاده وقضاؤه بما ظهر من كتاب الله فلا يعد تجاوزا للسلطة التشريعية ولا تعديّا عليها؛ لأنه من المجتهدين، ولأن الحكم الشرعي إذا ظهر في الكتاب أو السنة فالسلطان له، وعلى الجميع ـسواء السلطة التشريعية أو التنفيذيةـ أن يخضعوا لسلطاته، ولأن رجال السلطة التشريعية لن يسكتوا إذا خالف الخليفة -من وجهة نظرهم- دستورَ الأمة "الكتاب والسنة"، ولذلك عندما رأى عمر رأيه في سواد العراق وأراد ألا يقسم الأرض المغنومة على المقاتلين، وأن يتركها فيئًا للمسلمين وقف الصحابة واعترضوا، وناقشه المجتهدون من الأمة، وراجعوه وراجعهم، وجادلوه وجادلهم حتى اقتنع سوادهم الأكبر برأيه فمضى فيه.
وقد كان من استشارة الخلفاء وأهل الفتيا بعضهم بعضا ما يجعل من جماعتهم المحدودة شبه مجلس نيابي صغير ينقصه النظام، ولكن يعوضهم عنه ما كان منهم من تقليب المسائل على وجوهها وبحثها من جميع نواحيها.
وبعد عصر الصحابة جاء عصر التابعين لتظهر نواة المدارس الفقهية التي تعتبر مؤسسات تشريعية قائمة على أصلين: الأول سيادة الشرع، والثاني أن السلطان التشريعي في يد المجتهدين من الأمة، فظهرت مدرسة الرأي في العراق والتي وضع حجر الأساس لها الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، وفي مقابلها مدرسة الأثر التي وضع لبناتها الأولى علماء الصحابة في المدينة من أمثال عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت وعائشة وغيرهم، فإن عصر التابعين شهد شهرة واسعة لمجتهدين كبار كان على رأسهم الفقهاء السبعة في المدينة وهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسليمان يسار، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهم الذين اعتدَّ مالك بإجماعهم.
ثم ظهرت المذاهب الفقهية الكبرى التي شهدت طفرة عظيمة في الاجتهاد الفقهي القائم على أصول ودعائم علمية راقية، وكان أشهر هذه المذاهب هي المذاهب الفقهية الأربعة: مذهب أبي حنيفة، ومذهب مالك، ومذهب الشافعي، ومذهب أحمد بن حنبل، فكانت هذه المذاهب هي المؤسسات التشريعية العظمى التي تمثل السلطة التشريعية في العصور التي تلت عصر الخلفاء الراشدين.
وظل باب الاجتهاد مفتوحا وظلت هذه المذاهب هي المرجعية التشريعية للأمة الإسلامية حكاما ومحكومين في جميع المجالات، حتى جاء في عصور متأخرة علماء أغلقوا باب الاجتهاد؛ فنتج عن ذلك أن استجدت مسائل ونوازل في حياة الأمة لم يف تراث هذه المذاهب بمعالجتها، فكان من ذلك الحرج قصور التشريع الإسلامي عن مسايرة الزمن وتحقيق مصالح الناس، والتجاء بعض الحكومات الإسلامية إلى العمل بقوانين أمم غير إسلامية، ووقعت الأمة الإسلامية بمجموعها في براثن الاستعمار بالقرنين الماضيين، وجاء الاستعمار الغربي بفكره العلماني ونظرية السيادة الغربية، وغزا الأمة بقوانين غير شرعية، وصارت السلطة التشريعية فيها أبعد ما يكون عن الشريعة الإسلامية، وساعد على ذلك قابلية الأمة للاستعمار في تلك الفترة نتيجة الجهل والفقر والمرض والبعد عن روح الإسلام ومقاصده السامية وقفل باب الاجتهاد الذي يسعى به العلماء المجتهدون لتلبية حاجات الأمة في كل ما ينزل بها، وهذا هو الذي دفع المصلحين -من أمثال محمد بن علي السنوسي، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا وغيرهم- إلى فتح الاجتهاد، ولقد تجاوب بهذه الصيحة الصادقة علماء وأساتذة جامعات وشيوخ كبار، ونهضوا لهذا الواجب الكبير، فبدأت من جديد حركة الاجتهاد والتجديد، وصارت الشعوب الإسلامية مؤهلة للعودة إلى سيادة الشريعة عن طريق جعل السلطة التشريعية في يد المجتهدين من أبناء هذه الشعوب.
ولقد أوجدت الأمة مؤسسات كبرى تقوم بالاجتهاد الجماعي الذي كان يقوم به المجتهدون من الصحابة، ولكن بآليات معاصرة، وقد تمثلت هذه المؤسسات في المجامع الفقهية الكبرى مثل: مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة، ومجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، ومجمع رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وغيرها من المجامع التي جاءت بعدها وحذت حذوها، إلى جانب مشاريع الاجتهاد الجماعي الأخرى كمشاريع الموسوعات الفقهية الكبرى، مثل مشروع الموسوعة الفقهية الكويتية، كما ناقش العلماء المعاصرون إمكانية تجزئة الاجتهاد، بمعنى أن يوجد في كل فرع من فروع الشريعة متخصصون وخبراء يملكون أدوات الاجتهاد فيه وإن لم يستكملوا آلات الاجتهاد المطلق؛ وذلك لتوسيع دائرة الاجتهاد وتيسير أمره، وهذا الجهد المبارك يعتبر أرضا خصبة لنمو واختيار السلطة التشريعية التي يتمثل فيها بصدق سيادة الشرع وسلطان الأمة.
أما عن كيفية الاختيار وطريقة التكوين فهي من الآليات التي تختلف من عنصر لآخر، فنحن إذا نظرنا إلى السلطة التشريعية في عصر الخلفاء الراشدين ومن تلاهم، نجد أنهم لم يكتسبوا هذه السلطة بتعيين الخليفة ولا بانتخاب الأمة لهم، وإنما اكتسبوها بمميزاتهم الشخصية التي امتازوا بها، فجاء التكوين بطريقة فطرية تلقائية بسيطة كبساطة الحياة آنذاك.
وأما في الواقع المعاصر فيمكن عند قيام دولة إسلامية أن تشكل السلطة التشريعية من المجتهدين في العلم الشرعي، وذلك باتباع آليات معاصرة لا يتنافى العمل بها مع القواعد والأصول الشرعية.
السلطة التشريعية في التعريف الدستوري والمفهوم الإسلامي:
السلطة التشريعية في التعريف الدستوري هي السلطة المختصة بعمل القوانين، وتقوم مع ذلك بالإشراف على أعمال السلطة التنفيذية.
فهي السلطة المسؤولة ـإلى جانب مراقبتها للحكومةـ عن وضع القوانين الملزمة التي لا يسع أحد تجاوزها.
وأما السلطة التشريعية في المفهوم الإسلامي فهي السلطة المؤلفة من صفوة علماء الشريعة المجتهدين والمكلفة باستخلاص الأحكام الشرعية من مصادرها، والتعريف بها ووضعها لدى الدولة موضع التنفيذ، والمنوط بها الإشراف على السلطات الأخرى فيما يتعلق بتنفيذ الشريعة وتطبيق أحكامها، والمعهود إليها مع بقية أهل الشورى ومع سائر أهل الحل والعقد بالرقابة على الحكومة والمحاسبة لها.
ومن هذا التعريف يتضح الآتي:
أن السلطة التشريعية في الإسلام وفي الدولة الإسلامية لا تخرج عن دائرة علماء الشريعة المجتهدين، وهم علماء الشريعة الذين استجمعوا شروط الاجتهاد.
وهذه السلطة هي المكلفة شرعا والمختصة دستوريا، بالقيام بعملية التشريع وعملها التشريعي لا يعدو أمرين: أما بالنسبة إلى ما فيه نص فعملهم تفهم النص وبيان الحكم الذي يدل عليه، وأما بالنسبة إلى ما لا نص فيه فعملهم قياسه على ما فيه نص واستنباط حكمه بواسطة الاجتهاد، مراعين القواعد والمقاصد الشرعية.
فالسلطة التشريعية عندما تقوم بالتشريع فإنها لا تنشئ الأحكام إنشاء ولا تبتدئها ابتداء، وإنما تستمدها وتستخلصها وتستخرجها من كتاب الله وسنة رسوله، لا من غيرهما، وبذلك وضع النظام الإسلامي حدّا فاصلا بين أمرين لا يصح أن يلتبسا، وهما السيادة والسلطان، فالسيادة لله، والسلطان للأمة، السيادة لشرع الله، والسلطان للمجتهدين من الأمة الذين يقومون باستنباط الأحكام والإعلام بها والإلزام بتطبيقها، وهذا هو سلطانهم الذي لا يتعدى على سيادة الشريعة.
وإن عمل السلطة التشريعية لا يقف عند حد التشريع، وإنما يتعداه إلى الإشراف والمباشرة لضمان الالتزام بهذا التشريع من قبل السلطتين التنفيذية والقضائية، وخاصة السلطة التنفيذية، كما أنها تشترك مع سائر أهل الشورى وأهل الحل والعقد في القيام بدور الرقابة على باقي السلطات والمحاسبة للحكومة، وإبداء المشورة للحاكم ومعاونيه في كل مشكل يعرض للأمة من الأمور.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- مدونات الجزيرة