"هناك تبلورٌ لحالةٍ ملموسة من التديّنِ الفرداني، يبدو أقل نضالية، وينتمي بوضوح إلى العالم المعاصر، الرؤى الدينية المرتبطة بهذا التديّن تخلَّت عن المشاريع الجماعية الكبرى في سبيل مشاريع شخصية يهيمن عليها مبدأ تحقيق الذات والبحث عن الرفاهة الفردية، ..، وتطورَ لنمطٍ من التفكير الإيجابي (من أنماط التنمية البشرية) بديباجاتٍ إسلامية ."
-أليكس هايني، إسلام السوق.
كان يُفترَض بتلك الأنماط المؤسلَمَة، أن تستثمر في إعادة إنتاج التنمية البشرية الأمريكية في صورة إسلاموية بُغيةَ تحقيق نفس الغايات الكبرى والعناوين العريضة بصبغة دينية، فتجد التحريض على الخروج من الصندوق لرؤية العالم بصورة مختلفة كما هاجرَ موسى، والحث على اغتنام الفرص للتطور والصعود كما فعل يوسف، والتدريب على التخطيط كما فعلَ محمد صلى الله عليه وسلم، والتنظير للتميّز والطموح للقمة كما كان سُليمان؛ "مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ "، وللتغريد خارجَ السِّرب كما فعلَ الهُدهُد.
إلى غير ذلك من عناوين التنمية البشرية المؤسلمَة التي تركز هي الأخرى على مفاهيم التميز والتفرّد والتمرّد على السائد والخروج عن التيار والتركيز على الذات ببذل الوقت والمجهود الأكبر في تنميتِها ومراكمة مهاراتها لغاية الجاهزية للتأثير، والفاعلية في العطاء، واستحقاق الخروج إلى ميادين العمل والتطوع وتحديات العالم الخارجي، تركيزٌ تحوّلَ تدريجيا إلى تمركز حول الذات جَعلَ غايته جهوزيةً لا تتحقق، وتنميةً لا نهائية، غير موقوتة أو محدودة بسقفٍ أو ببرنامج ومُخرجات عملية ملموسَة.
لكنها على عكسِ غايتها في نشر الأمل الوردي والثقة في النفس والتميّز والإبداع، أنتجت مجموعة محدودةَ العدد من الفاشونيستا والمؤثرين تُغري بالنجومية، يلهث خلفهم البقية عاجزين عن اللحاق بهم وبأزيائهم وأساليب عيشِهم وسعة اطلاعهِم –وعدد متابعيهم-، فاستُبدلَت الجماعات الأولى بأخرى أقلّ فاعلية وواقعية، تابِعة بتعصّب، مُقلّدة بإفراط، موطنها صفحات المؤثرين ولغتها ال "waw"، ووظيفتها الإعجاب والانفعال دونَ عمل أو التزامات واضحَة، ولا وظائف محدّدَة ولا مهامَ ضرورية خاضعة للتقييم والمحاسَبة.
ما أدى إلى جانبِ انتشارِ القنوط، وجلدِ الذات، والكفر بالمؤهلات، واليأس من النفس، ومن إمكانية ظهورِها وظفرها ببعضِ الضوء والتصفيق والاهتمام، إلى فوضى عارمة في القدوات ومفهوم الجدوى، -فيتوزع الجميع على ما يشبهُ كنائس يوم الأحد التي يحتشد فيها المريدون البرجوازيون، للإنصات بخشوع وانبهار للآباء المفوّهين البلغاء، وخطبِهِم عن الذات والكينونَة وأولوية تغيير النفس –اللانهائي- والجهاد بالتميّز والتقرّب لله بالنجاح، دونما سقفٍ لذلك التغيير، ولا مُحدّدات، ولا مُخرجات، تغييرٌ وتنميةٌ فحسب.
فحدَثَ العزوف العام عن القضايا الكبرى وتركها في أحسن الاحتمالات لفضولِ الأوقات، وعن المساعي الجماعية التقليدية المنظمة، المشروطة بالانضباط، والالتزام، وخُطط العمل، وتقليم حظ النفس، وتقليص حيّز الذات لصالِح المجموعة، مقابلَ نزوعٍ شديد إلى إبراز الذوات الفردية وتضخيم ما يسمى بمواهبها ومهاراتها، وإحاطة أصحابِها بهالة التأثير والإلهام، لتنتج لنا جيشا من المساعي الفردية ذات التسويق الذاتي والأهداف اللّزِجَة، فتلاشت نواد وجمعيات، وضمرت روابط وتنظيمات، واندثرت كثير من المؤسسات العريقَة في مجالات شتى، خاصةً في الحقلِ الدعوي، لأنها –تَنمَويا- تيارٌ وقطيعٌ وسائدٌ، وسِربٌ يجبُ التغريدُ خارجَه، في كثير من الأحيان للخروجِ فحسب، لا يجب أن يكون السببُ بالضرورة عجزا وشيخوخةً أو انغلاقا، بل لمجرّد كونها مجموعةً ما في ميدانٍ ما، لها خطة صارمَة وقادةٌ قلائل وجنود كثيرون؛ ما يجعلُ منصّاتِها مُحتكرَة، وبُقعَ الضوءِ والظهورِ فيها محدودَة، فيكفي ذلك للنقمة عليها وهَجرِها بعد تحويلِها إلى صندوق –حسب مفاهيم التنمية البشرية- يجبُ كسره والخروجُ منه.
هذا لا ينفي أن بعض تلك التنظيمات والتكتّلات والأفكار قد فاتَها القِطارُ حقا، لكن كثيرا من تلك الأفكار والمشاريع والتجمّعات الصغيرة أو المجتمعات الكبيرة -التي ذنبُها الوحيد أنها جماعية أو تقليدية-، في حاجة إلى أن تُعزّزَ وتُدعمَ لا أن تُطوى وتُوضَعَ في رُفِّ ما تجاوزه الزمن ، فلعلَّ غاية بعضِها بعيدَة وسيلةُ ظهورِ ثمارِها التراكم والتدرج والمزاحمة، أو الاعتذار والبراءة والسعي لحماية الجذوة الخافتة والحفاظ على البصيص الضئيل في ظل شروطٍ غير متوفرة، وظروفٍ قاهرَة، ولعلَّ العيبَ الوحيد يكمنُ في تعريفنا للتميّز والنجاح، وفي فهمِنا للمطلوب مِنا..
قال تعالى: "إذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِث".
لنلق بأنفسنا في تلك النقطة الزمنية الفاصلة بين التكذيب والتعزيز، هل تعتقد أن اللّذَينِ أُرسِلا أولا كانا عاجزَين عن التبليغ، فاقدَين لوسائله وأسبابه، غيرَ مُستحِقَين لتولي تلك المهمة، أو ربما لم يكونا مُتميزَين، فكيف تفسّرُ اختيارَهُما واستعمالَهُما دونَ غيرِهما، لحملِ رسالةٍ بتلك القيمة والخطورة وكيف ارتقيا إلى مرتبة الأنبياء، ما لم يكونا على قدرٍ كاف من البلاغة والمهارة في التواصل والقدرة على الإقناع والتأثير والتجميع !.
هل أدركتَ الآن أن المغزى لا يكمن فيما تملكه فقط، وأنك مجرد عنصر واحد في معادلة طويلة بشروط متغيرة، عليك فيها بمهمة البلاغ والتموضع في مكانك الصحيح، ثم لا تلام إذا غابت النتائج، فقد تكونُ الصورة أكبر منك، وما أنت بصدده أكبر من مجرد قاطرة واحدة؛ وإن تعددت عجلاتها ونوافذها.
قطارٌ طويل متكامل، متصلٌ بينَ كلّ قاطِرَتَينِ بحلَقَةٍ رفيعة، لا يراها كل من في هذه القاطرة أو تلك؛ لكن ذلك لا يقللُ من كونها منفصِلَةً حلقةً مهمّةً في سلسلةٍ متصلة ستبلغُ غايتَها في نهاية المطاف، قد لا يضرها من يقفزُ من الفارغين أثناء المَسير، فذلك لا يضرُّ إلا نفسه، ولكن تضرها كثيرا تلك القُدُرات التي تُقلّلُ من دورِها داخِلَ المنظومة وتيأس منه، أو تعرفه ثم تتنازل عنه جهلا أو انتكاسا؛ فتفتحُ قبضَتها، فيحدثُ الانقسامُ وتَشتُّتُ المجهودِ، وضياع الأزمنة في التشخيص والصيانة والاستبدال وإعادة التركيب والانطلاق والتسارع، ثم التعويض..
قد يبدو للوهلة الأولى أني أتحدث كما جرت العادة عن جزئية الثمرة والتعلق بالنتيجة وأن مهمتنا هي بذل الأسبابِ لا التعلقُّ بالنتائجِ وعبادتُها، قد يكون ذلك صحيحا في ملمَحٍ ما؛ لكنني أريد شيئا آخر، أريد الإشارة إلى تلك المهمة الربانية الجليلَة، وذلك المقام والاستخدام الخاص، "فعزّزنا".
ذلك التأشير والتنبيه الخطير، الذي نَسَبَهُ الله إلى نفسِه، ليكونَ تنويها خالدا بقيمتِه وأهميتهِ وعظمةِ شأن المستجيبِ له، الملتزمِ بشروطِه ووظائفه وإن تطلّب منه ذلك أن يهضم رغبته في التصدّر، ويقلّم نزوعه إلى الظهور والأوّلية، وأن يكونَ مجرّدَ ثالثٍ أو رابعٍ أو عاشرٍ يُعزَّزُ به جُهدٌ أو تكتّلٌ ما، يَضافُ إلى مجموعة أو رسالةٍ معتادة يمدُّها أو يجدّدها أو ينخرطُ في صفوفِها، ويكونُ مع ذلك أولا في نظرِ الله مهما كان ترتيبه وموقعه، فهو وإن لم يدرك بواعث انضمامِه إلى تلك المساعي والقضايا، وأسبابَ اختيارِه لاستثمار ذاتِهِ ووقتِه فيها، مُختارٌ من الله ومبعوثٌ مُرسَلٌ إلى ذلك الموقِع بتوجيهٍ عُلوي مباشِر بإسمهِ ورَسمِه، حتى وإن لم يُحدِث تموضعُهُ فيه تغييرا ظاهرا، وإن وقعَ تكذيبُ للثلاثةِ، كما وقع لإثنينِ وقبلهمُا للواحد، فالمغزى من التعزيز واضح.
تستطيعُ أن تكونَ متميّزا وأنت في منتصف، أو في مؤخرة الصف، أو في الكواليس، ولستَ مطالبا دائما بالخروج من التيار لتتميَّز وتقومَ بشيء يُذكَر، فقد يكونُ ذلك من الداخِل، بتوجيهِه أو السعي لتنظيفِه، فربما كان رغم كلِّ ما شابَه متجها نحو الاتجاه الصحيح، يحتاجُ قليلا من التنقية فحسب، ولم تكن مأمورا بالتغريد خارج السرب، فقد تكون مهمتك الأُولى والأَولى أن تنضمّ لتلك الأوركسترا الكبيرة، فتغريدتك مبتدعَةٌ لذلك المكان، لتحسّنَ صوتَه وترفعَه نحو حقيقةِ رسالتِه وغايتِه، بقيادتِه من موقع المايسترو والصدارة، أو بتعزيزِه والتأثيرِ فيه ما استطَعت؛ مِن موقِعِ الكورال، أو بالمرابطَة في ثغور التفاصيل والمهام الصغيرةِ الخطيرَة خلفَ الستارة، فانطفاءُ مصباحٍ روتينيٍ مُعتادٍ واحِد قد يسبّبُ نشازا يُضيّعُ الجُهدَ كلَّه.
تستطيعُ أن تكونَ متميّزا وأنت في منتصف، أو في مؤخرة الصف، أو في الكواليس، ولستَ مطالبا دائما بالخروج من التيار لتتميَّز وتقومَ بشيء يُذكَر
فالمعنى الإسلامي للتميّز يستوعب أن يسعى جنرالاتُ الصحابة الكبار حثيثا، في البحث والترقّبِ، وتحسُّسِ خَبَرِ رَجُلٍ غريب من الصحراء ليستغفَرَ لهُم، وأن يبكي رسول الله حبيبَه جُليبيب المَنسي، وأن يكون الأشعث الأغبرالمَدفوع المردود بالأبواب محظيا عند ربه إلى درجة أن يقول عنه الحديث "لو أقسمَ على الله لأبرَّه"، وأن يُصبحَ حمزة بن عبد المطّلب الذي ارتقى شهيدا في منتصفِ روايةٍ؛ لم يكن الأول في أحداثها، ولا الأخير قاطفَ الثمرة وصاحبَ اللمسةِ الأخيرة فيها، عنوانا عريضا لفصلٍ من أهم فصولِها، وسيدا للشهداء حتى قيام الساعة.
وفي مُؤتَة العصر ومعارِكِها، قد لا يكون أسامة، وجعفر، أو عبد الله رضي الله عنهُم، عاجزين أو ضعفاء أو قليلي مؤهلات قيادية وزادٍ معرفي، أو محدودي إدراكٍ بالمحيط والواقع، أو ضئيلي إلمام بفقه الصراع وأدوات النزاع والنزال، وفنون القتال والمعافرة، حتى يكونوا قادةً منتَصرين، فماهي إلا منظومةٌ تأخذُ وقتها الكافي، وفكرة تستغرقُ ما شاء الله، وبذرةٌ تشق طريقها صُعودا بصمتٍ حتى تُثمر.
قد تكون مهمة كل واحد فيهم أن يحافظَ على الراية في مكانِه كما فعلَ سابقوه، منتظرا الفتح الذي قد يأتي على يده، أو يأتي على ذراعيه ويقتاتُ عليه، ثم يأتي على يد خالد الذي يليه أو يَلي الذين بعدَه، ثم لا يكونُ في توسُّطِهِم وتموضُعِه بينهُم وفي غبرائِهم وتكرارِهم، مُحتقِرا لمكانه ومكانتِهِ، وقيمَةِ مُهمّتِه، بل يعتز بها وبما بذله في سبيلِها، مدركا بأنه لم يكن نسخةً –كما يُقال-، بل كانت معركته مختلفة تمام الاختلاف، وإن تشابهت ملامحُها مع من سبقَهُ وتركَ له المشعل والراية والوصية ومُغلّفَ الرسالة.
فالتميّز والقيمة والأثر في عُرفهم لا يُشترَط فيه التصدّرُ والأوَّلية، ولا النشوز والنفور من الأطر والجماعات، ولا يتعارض مع الجُندية، أو مع تتبّعِ آثارٍ، أو اتّباعِ أفكارٍ لآخرينَ سبقوهم أو عاصروهُم ؛ "ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس"، أو أن يكونوا جزءاً من عملٍ جماعي مُعتاد، ملتزمين بوظيفة يوميةٍ عادية، يقومونَ بها كما يقومُ بها الآخرون، وسطَ الناس ومعهم؛ "وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ"، قال بن عطيّة الأندلسي: "فأمَرَهُم بقولهِ (مَعَ) بشهودِ الجماعة"، أما القُشيري صاحبُ اللطائف فقالَ فيها: "تقتدى بآثارِ السلف فى الأحوال، وتجتنِبُ سنن الانفراد، فإن الكونَ فى غِمَارِ الجَمعِ أسلمُ من الامتيازِ من الكافّة.".