بطبيعة الحال السياسي والاهتمام العام في مجتمعاتنا في المرحلة الراهنة؛ فإنَّنا عندما نقرأ عن مشكلات الدين والدنيا، والأزمات التي دفعت عشرات الملايين من الشباب العربي والمسلم إلى الانفضاض من عباءة التَّديُّن؛ أنْ نقف عند قضية التشدد والتطرف.
ونقول "الحال السياسي"؛ لأنَّ خطاب "مواجهة التطرف"، أجَّج منه معركة مكافحة الإرهاب والتي كان جذرها الأساسي بؤر التطرف العنيف التي نشأت لعوامل عدة، أهمها قصور أداء الدولة الوطنية الحديثة لأدوارها الوظيفية –أي التي تأسست لأجلها– في الدمج والتوزيع العادل للثروة والسلطة، وكذلك معارك سياسية بامتياز، على رأسها صراعات الأنظمة والحكومات مع التنظيمات والجماعات الدينية خصوصًا في مرحلة ما بعد ثورات ما يُعرَف بـ"الربيع العربي".
إلا أنَّ هناك وجهًا آخر لمشكلاتنا المجتمعية لا نكاد نلحظ اهتمامًا به، برغم أنَّ أثر دوره لا يقلُّ خطورةً عن الإرهاب المسلَّح العنيف الذي يستهدف المجتمعات.
يرى البعض في التشدد وجهَ خطورةٍ، وهو أنَّه يقود صاحبه إلى إيذاء الآخرين من خلال سعيه إلى فرض رؤيته المتشدد للدين على المجتمع، بما يتضمنه ذلك من عنفٍ مسلَّح في بعض الأحيان، ولكن لا أحد يقف فعلاً أمام خطورة الانفلات من الدين والتقصير الذي يصل إلى حَدِّ التفريط في أداء العبادات والأخذ بقواعد الدين في دائرته المهمة، المتعلقة بالمعاملات بين الناس .
أثار هذا الموضوع في المُخَيِّلَة، ما قال به فضيلة الإمام الأكبر، شيخ الجامع الأزهر، الدكتور أحمد الطيب في حلقة الرابع من شهر رمضان من برنامجه "الإمام الطيب"، المذاع على شاشة التليفزيون المصري في هذا الصدد.
المنطق المهم الذي أثارته عبارات الدكتور الطيب، هي أنَّ الدينَ الإسلاميَّ، هو كُلٌّ متكامل، وشامل للجوانب الروحية والدنيوية العملية، والتي تنظم الحركة فيها أحكام الشريعة، وأي خلل في الأخذ منه، سواءٌ بالتقصير أو بالتشدد؛ هو خلل في العمل بشريعة اللهِ تعالى.
وهو ما يعني أنَّه لا يُوجد في ذلك مجالٌ لإدخال سماحة الدين كمُبرِّر لارتكاب المعاصي والابتعاد عن تنظيم الدين لأمورنا، لاسيما فيما يتعلق بعناصر مثل الأخلاق والمسؤولية الأُسَرِيَّة والمسؤولية المجتمعية وصولاً إلى مسؤولية الوظيفة العامة.
فباسم سماحة الدين ووسطيته؛ نجد أمورًا عجبًا، تجعل الناس يبررون جرائم يمقتها الدين فيما يتعلق بحقوق العبادِ على بعضهم البعض.
وحقوق العباد كما نعلم، يقدِّمُها اللهُ تعالى في حسابه للبشر على حقوقه هو ذاته؛ لأنَّه القوي الغني الحميد، ولن ننقصه أو نزيده شيئًا بتقصيرنا أو بعباداتنا، بينما العبدُ، ضعيفٌ، وبحاجةٍ إلى حمايةٍ في حقوقه، فيما جمعته مقاصد الشريعة، وهي: حماية الدين والنفس والمال والعقل والعِرض (ويزيد البعض النَّسل).
وهنا يظهر دور التقصير والإفراط، بالذات في أهم مُكوِّن من مُكَوِّنات فلسفة الدين، وجوهره وجوهر منطق إنزال اللهِ تعالى للشرائع الناظمة لعباده، وهو الأخلاق وحفظ الحقوق وتنظيم أمور الدين والدنيا.
وبالتأكيد، ومن خلال مقاييس علمية اجتماعية صارمة؛ فإنَّ أثر ذلك على المجتمعات الإنسانية، أخطر بكثير مِن أثر التشدد؛ حيث الإرهاب والعنف المسلح أو البدني الفردي، هو الواجهة الأهم للتشدد، بينما التقصير والتفريط، هما المسؤولان عن باقي كُل ما نعانيه من أزمات ومشكلات اجتماعية.
بل إن التقصير والتفريط في أثرهما في الفساد السياسي والإداري والمجتمعي، هما العامل الأهم – وفق دراسات اجتماعية وسياسية وأمنية رصينة – وراء ظهور ما يُعرَف في الدراسات الأمنية والاستراتيجية بظاهرة التطرف العنيف وبؤره التي تغذِّي حركات التمرُّد المسلح والجماعات والتنظيمات الإرهابية التي تحمل السلاح ضد الدولة والمجتمع.
فغياب الوازع الأخلاقي الذي هو ثمرة التَّديُّن الصحيح – "إنَّما بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق"– هو أساس وجذر أيَّة ظواهر ونكبات تعاني منها مجتمعاتنا .هو أساس الإهمال والفساد في الوظيفة العامة، وهذا أخطر من الإرهاب في كثيرٍ من الأحيان، فلو تأملنا واقعنا في مصر؛ سوف نجد أنَّ العامَيْن الأخيرَيْن كانا خُلوًا من جرائم التفجير وصور الهجمات الإرهابية، بينما حوادث الطرق والقطارات المرتبطة بالإهمال والفساد، باعتراف الدولة ذاتها في محاضر تحقيقات الشرطة والنيابة العامة، يسقط فيها الآلاف من الضحايا سنويًّا.
والتقصير والتفريط، هو أساس جرائم قذرة مقززة، مثل زنا المحارِم والتحرُّش وقتل الأب لابنه أو الابن لأبوَيْه، لسبب أو لآخر، يكون تافهًا للغاية، ويتم ذلك بسبب غياب القيد المتعلق بوزن الأمور بميزان الآخرة، والتي هي مع الوازع الأخلاقي، من أهم ثمرات التَّديُّن الصحيح؛ حيث إنَّ فيها عاملٌ شديد الأهمية، وهو تحقيق خشية اللهِ تعالى عند الإنسان، وبالتالي؛ يتقيه في كُلِّ عمله وفي أيِّ أمرٍ يقوم به.
فلو لم نخش اللهَ تعالى، ونخش عقابه في الدنيا والآخرة؛ فلَنْ نلتزم في حياتنا بأيِّ وازعٍ من ضميرٍ في أيِّ شيءٍ نقوم به والعياذ بالله.
وهنا نصل إلى صميم الأمر، وهو مكمن خطورة التفريط والتقصير، واستغلال سماحة الدين في تبرير جرائم عظيمة، مثل جرائم النفس والمال؛ حيث إنَّ الأمر حرفيًّا يتصل باستقرار المجتمعات الإنسانية.
فالمبدأ الذي يقول: "ما لا يُوزع بالقرآن، يُوزع بالسلطان"، يشمل طائفةً واسعةً من "السلطان"، فلا يقف الأمر عند حدود سلطان القانون والسلطة؛ حيث يخشى الإنسان العقاب الدنيوي بالسجن أو الغرامة أو غير ذلك من صور العقاب البدني وتقييد الحرية التي تنصُّ عليها القوانين الوضعية.
وإنما يتضمَّن ذلك سلطان النفس على الذات، بحيث يمنع الإنسان نفسه من أذى الناس، ومن الإفساد في الأرض، خِشْيَةً لله تعالى، وخشية عقابه، وهذا أقوى من سلطان القانون والزجر السلطوي؛ لأنَّه في كثيرٍ من المواقف؛ لا يكون هناك إمكانية لممثلي القانون أن يدركوا المُتورِّط في هذا الجُرم أو ذاك، وبالتالي؛ فالوازع الداخلي للإنسان، هو الأهم والأكثر فاعلية.
وهذا أمرٌ يؤكده الواقع؛ فأكبر الدول التي تعاني من جرائم المال والنفس؛ لا تفتقر إلى القوانين، وكذلك لا تفتقر إلى إرادة السلطة في حماية المجتمع من هذه النوعيات من الجرائم، ولكنها غير قادرة على ذلك، لأنَّ الوازع الداخلي لدى الإنسان فيها، ميت أو ضعيف، بسبب أنَّه لا يفهم الدين بالشكل الصحيح.
وبالتالي؛ فإنَّ هذه القضية ليست مِن تَرَف أو مِن رقائق الأمور، وإنما هي من أخطر وأهم القضايا المرتبطة بالمصالح المُرسَلَة للناس والمجتمعات، وبات الاهتمام بها من أهم الضروريات لو أرادت الحكومات والمجتمعات أنْ تضمن الاستقرار الكافي لكي تتقدَّم وتتطوَّر.
ولن يتم ذلك من دون أداةٍ تربوية وإعلامية قوية ذات تأثير، وتدعمها إرادة سياسية ومجتمعية راغبة في الخلاص من قَذَرِ الأنفس والسلوكيات المميتة.