كعادته الإمام القرضاوي، يطل علينا بأبحاثه القصيرة والمركزة، والتي عادة ما تأتي استجابة لمؤسسة ما (كما هو الحال هذه المرة مع الأمانة العامة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث)، يقدم فيه استعراضا لأهم سبع قواعد مهمة من (القواعد الحاكمة لفقه المعاملات)، مشاركة منه في دورة المجلس التي عقدت في إسطنبول عام 2009، مستفيدا - على حد قوله - من كتب العمالقة من الفقهاء السابقين، أمثال الإمام السيوطي الشافعي، وابن نجيم الحنفي، و القرافي المالكي، وابن القيم الحنبلي، كما أشار كثيرا لـ "مجلة الأحكام العدلية" وشرحها للعالم التركي علي حيدر.
لن أتحدث كثيرا عن متانة النص وقوة التعبير ودقة الألفاظ وتراتبية المعلومات ومنهجية البحث، فهذا لا يجهله كل من يقرأ للإمام القرضاوي -حفظه الله ورعاه-، إلا أن ما استوقفني هنا هو تواضعه -رضي الله عنه- حين اطلع بُعيد إنجازه هذا البحث على"موسوعة القواعد والضوابط والقواعد الفقهية الحاكمة للمعاملات المالية في الفقه الإسلامي" للعالم الهندي الدكتور علي الندوي، وهي للعلم موسوعة ضخمة ناهزت الثلاث مجلدات، فيقول -في مقدمة الطبعة الأولى عام 2009م-: (وقد وجدت هذا العمل كبيرا وأصيلا، حتى إني استصغرت عملي بإزائه، ورأيت أن لا داعي لنشره، ولكن إخواني قالوا: إن لكتابك نكهة خاصة، ومذاقا خاصا، يجعله متميزا عن غيره، وإن كان الموضوع واحد، وقد نزلت على رأيهم، ووافقت على نشره)، وهذا ما تم والحمد لله، لدرجة أنه أورد في مقدمة الطبعة الثانية 2016م أن الكمية نفدت بمجرد صدورها، ولم يتمكن هو من الحصول على عدد من النسخ منها.
الكتاب - في طبعته الثانية والصادرة عن الدار الشامية - يقع في 192 صفحة من القطع المتوسط، بشكل أنيق ومميز وغلاف hard cover جميل وصفحات صفراء رائعة، قسّمه الإمام القرضاوي بعد المقدمة الرئيسة -التي تحدث بها عن فلسفة التقعيد عند أهل الفقه وضرورة الأخذ بها بين الفقهاء والمفتين والقضاة الشرعيين- إلى سبع قواعد كبرى:
القاعدة الأولى: (الأصل في المعاملات الإباحة)، تحدث فيها عن التأصيل الشرعي لهذه القاعدة، وأثرها في البيوع والعقود بأنواعها، كما أشار إلى مدى تضييق السلف الصالح - رحمهم الله - في التحريم في شؤون العادات والمعاملات.
أما القاعدة الثانية فكانت: (العبرة بالمقاصد والمسمّيات، لا بالظاهر والتسميات)، حيث تناول فيها التأصيل الشرعي للقاعدة ومن ثم إبطال هذه القاعدة لما يسمى بـ"الحيل الفقهية"، وموقف العلماء من ذلك، وأشار أيضا إلى خطورة ذلك في استحلال الربا بمسمى البيع، وكيف ناقش العلماء مخاطر "التعامل بالحيل الفقهية" على البنوك الإسلامية.
وفي القاعدة الثالثة: (تحريم أكل أموال الناس بالباطل)، تحدث فيها القرضاوي -بُعيد التأصيل الشرعي- بأمثلة كثيرة ومتنوعة في واقعنا المعاصر على أكل أموال الناس بالباطل، مشيرا إلى كثرة المخاصمات بين المسلمين هذه الأيام ولجوئهم إلى المحاكم بسبب أكل أموال بعضهم بالباطل.
وفي القاعدة الرابعة: (لا ضرر ولا ضرار)، فقد تبحر بها القرضاوي أيما تبحر، وأخذت حوالي 35 صفحة، أورد فيها أنواع الضرر بغير حق وأمثلتها الكثيرة، وأورد ستاً من القواعد الفقهية المستقاة من هذه القاعدة، بل وصل به الأمر إلى أن استطرد - حفظه الله ورعاه - في مخاطر الإضرار بالبيئة من الإتلاف والافساد والتلوث، وأحالنا -بعد استطراد خفيف- إلى كتابه (رعاية البيئة في الشريعة الإسلامية)، وأيضا إلى قرار رقم 185(19/11) الصادر عن المجمع الفقهي الإسلامي الدولي في دورته التاسعة عشرة المنعقدة بالشارقة بشأن (البيئة والحفاظ عليها من منظور إسلامي).
أما القاعدة الخامسة: (التخفيف والتيسير لا التشديد والتعسير)، فبعد التأصيل الشرعي أورد فيها القرضاوي عدداً من مظاهر التيسير والتخفيف عند أهل الفقه، وحاجة الأمة في عصرنا الحالي إلى التيسير، لا سيما الأقليات المسلمة، معتبرا هذه القاعدة هي مفتاح منهجه المعروف به بالتيسير والوسطية، مستدلا بقول الإمام سفيان الثوري -رحمه الله تعالى-: (إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد).
وفي القاعدة السادسة: (رعاية الضرورات والحاجات)، أبان فيها القرضاوي اتفاق العلماء عليها، وفرّق من خلالها بين الضرورات والحاجات وما ينزل منها محل الضرورات، كما فرّق أيضا بين ضرورات الأفراد وضرورات الأمة، كما وضْح مقدار ما أبيح للضرورة وقدرها.
أما القاعدة الأخيرة: (مراعاة العادات والأعراف فيما لا يخالف الشرع)، فقد وضع القرضاوي رحاله هنا واستفاض بما لا يقل عن 33 صفحة، وفرق من خلالها - بعد التأصيل طبعا - إلى العام والخاص، والقولي والفعلي، والحقيقي والمجازي والكنائي، كما أورد تسعا من القواعد الفقهية المشتقة منها، كما وضح ما يصادم من هذه الأعراف الشرع، وكيفية ردها إلى الشرع، وأشار إلى كيفية التعامل مع (حكم النص الشرعي إذا بُني على عرف تغيّر)، وضرب مثالا مهما حول كيفية احتساب نصاب الزكاة في زماننا... أهو بالذهب أم بالفضة؟؟؟
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يعين الإمام على إكمال مشاريعه العلمية، وأن يعلمنا مما علمه، وأن يتقبل منا ومنه صادق الأعمال وخالصها...