يفقد الحاكم صلاحيته وسلطته إذا عارض حكم الله ورسوله وهو الدستور الأعلى في الدولة الإسلامية وهذا ما أدركه الخلفاء الراشدون والمسلمون جميعاً، فقد قال أبوبكر الصديق في أول خطبة له بعد البيعة: (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيتهما فلا طاعة لي عليكم ).
أكدت الشريعة الإسلامية منذ ظهور الإسلام أنها دعوة للحرية الانسانية بمفهومها الشامل الجامع المانع من خلال شهادة التوحيد ( أن لا أله إلا الله ) وفق مقتضيا الإيمان بها والالتزام بحقها.
فالناس جميعا عربهم وعجمهم أحرارهم وعبيدهم. حمرهم وصفرهم أو سودهم متساوون في إنسانيتهم متساوون في حريتهم. خلقوا من أبيهم ادم وآدم من تراب، فلا عبودية إلا لله تعالى، ولا سيادة لأحد على أحد، ولا سيادة إلا لله وحده فهو الذي يستحق الخضوع، وله الخنوع والطاعة وحده لا شريك له القائل: {ولقد كرمنا بني آدم} وجعل الإنسان كل الإنسان دون نظر إلى عرق أو لون خليفة في الأرض {إني جاعل في الارض خليفة}.
و بإمعان النظر إلى نصوص وثيقة المدينة يمكننا القول وبكل ثقة أن أول دستور مكتوب عرفه العالم؛ كان عبارة عن تلك الوثيقة التي أعدها الرسول الله صلى الله عليه وسلم لتنظيم وترتيب وترسيخ نظام دولة المدينة المنورة عقب وصوله إليها مهجرا من مكة؛ اذ تضمنت هذه الوثيقة على نصوص منظمة للشؤون العلاقات العامة في الكيان الإسلامي الجديد؛ المكون من مهاجري مكة وأنصار المدينة ممن أسلم من الأوس والخزرج، بالإضافة إلى من بقي منهم على الشرك و أقلية اليهود، وغيرهم ممن أبدوا استعداهم للخضوع لهذه الدولة ونظامها الجديد.
تضمنت هذه الوثيقة نصوصا في التكافل الاجتماعي وإقامة العدل والمساواة، وتنظيم التقاضي بين المتخاصمين، وحق الحريات التي كفلها الاسلام - نصوص الكاتب والسنة – وحق الحياة وحرية العقيدة وحق الملكية، وحق الأمن والمسكن والتنقل، وحق الفرد في المعونة المالية وغيرها من الحقوق العامة والخاصة.
وبذلك يكون الإسلام أول من أرسى دعائم الحريات الفكرية –العقيدة- والاقتصادية والاجتماعية، وحق التجمعات على اسس قبلية و دينية، وحق إبداء الرأي والتصريح به؛ دون تقييد أو خوف من عقاب أو مطاردة وتشريد.
لقد ظهرت قابلية المجتمع والدولة الإسلامية للتعددية السياسية والفكرية عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حول مسألة خلافته في اجتماع الصحابة من مهاجرين وأنصار، في سقيفة بني ساعدة لاختيار من يخلفه؛ تنافس فيها الأنصار والمهاجرون على الإمامة ورئاسة الدولة. حتى قال الحباب بن المنذر الأنصاري (منا أمير ومنكم أمير) وبعد أخذ ورد ونقاش حٌر لم تكمم فيه الأفواه، ولم يُحجر على رأي، تم الحسم بالتراضي والقبول مع احترام رأي المُخالف (سعد بن عبادة) الذي أمتنع عن بيعة أبي بكر في السقيفة.
إن العدل في القضاء والمساواة في العطاء، من أهم المبادئ التي قام عليها الخطاب السياسي مع بداية عصر الخلفاء الراشدين الأربعة رضوان الله عليهم، وهما يمثلان تعاليم دين الإسلام المٌنزل على نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، وجاء تأكيد هذين المبدأين في آيات كثيرة من سور القرآن المتنوعة في أسباب النزول، والمختلفة السياقات ولكنها تحمل نفس المضمون الجليل.
منها قوله تعالى {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} وقوله: تعالى. {ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} بل جعل الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب، هي تحقيق مبدأ الحرية والعدل، وكفالة حرية التفكير والتعبير {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}.
فالكتاب والسنة هما مصدر التشريع والدستور الذي يجب التحاكم إليه، وبهذا سبق الإسلام جميع الأنظمة والفلسفات الأرضية في ترسيخ مبدأ المشروعية الذي يخضع له الجميع بلا استثناء، الحاكم والمحكوم على حد سواء.
تعد حركة الخوارج أول حركة فكرية سياسية معارضة مسلحة خرجت على الخليفة الراشد على بن أبي طالب بعد قصة التحكيم لاعتراضهم عليه بقبوله رد الأمر – الخلافة – إلى الأمة وتحكيمها، وحكمت عليه وعلى من معه من الصحابة الكرام بالكفر!!!.
لم يقاتلهم علي رضي الله عنه قبل أن يسلوا السيف ويسفكوا الدماء، في الوقت الذي كانوا يطعنون فيه وهو يخطب على المنبر، ويسفهون رايه وينتقدون سياسته علنا. فكان يقول: لأصحابه عنهم ( لهم علينا ثلاث : ألا نبدأهم بقتال ما لم يقاتلونا، وألا نمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيها اسمه، وأن لا نحرمهم من الفيء ما دامت أيديهم بأيدينا) مع شرط ألا يسفكوا دما حراما ولا يقطعوا سبيلاً ولا يظلموا ذمياً.
فكان رضي الله عنه يرى أن فساد آرائهم وتطرفهم ومعارضتهم له، لا تستوجب قتلهم أو حبسهم أو ضربهم، وهذا ما كان ينهجه عثمان مع من خرجوا عليه، وهذا ما كان ينهجه عمر مع من خالفوه الرأي واعترضوا على سياسته، وهذا أيضاً ما ثبت عن أبي بكر مع من ينتقده ويسبه علانية، كل هؤلاء الخلفاء الأربعة الراشدين لم يؤاخذوا أحداً بمجرد آرائه الفكرية والعقائدية أو السياسية؛ كل هذا يؤكد مدى حرمة الحرية الفكرية والسياسية واحترامها من قبل هؤلاء الخلفاء الأربعة الذين أجمعوا عليها.
كفل الإسلام للإنسان حق الانتماء إلى أي حزب أو جماعة أو تيار شاء، ولهذا لم يعترض عثمان ولا علي رضي الله عنهما على الانتماء للجماعات السياسية والفكرية ومنهم الخوارج، والمقصود بالجواز والحق هنا الجواز القضاء الذي لا تستطيع السلطة مصادرته ولا يقصد به جواز ديانة وإفتاء؛ اذ لا يجوز بل يحرم الانتماء إلى الجماعات والفرق المنحرفة والمبتدعة، ولكن الخلفاء – كحكام - لم يروا عليهم سبيلا في منعهم من الانتماء ما لم يخرجوا على الدولة بقوة السلاح، ومن باب أولى الانتماء إلى جماعات اصلاحية تطرح برامجها السياسية والفكرية دون عنف أو دعوة لشق الصف.
رسخ الإسلام من خلال النص المنزل – القرآن والسنة - مبدأ كرامة الإنسان بصفته الإنسانية مسلماً كان أو غير مسلم، وأكد على ضرورة حماية الحقوق والحريات، من الاعتداء أو التضييق، فحرم القرآن الاعتداء على النفس الإنسانية تحريماً قطعيا؛ إلا في حالات الجزاء المنصوص عليها أو رد الاعتداء.
قال تعالى {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل النفس التي حرم الله أنها من السبع الموبقات كالشرك بالله تعالى الذي هو من أكبر الكبائر، وجعل جزاء قتل النفس ظلماً وعدواناً القصاص حماية للنفس البشرية من الاعتداء إذ في القصاص من القاتل بغير حق حياة للجميع ورادع انفى للقتل قال تعالى {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب}.
وكل مواقف الصحابة رضي الله عنهم في مرحلة المعارضة الأولى لعثمان رضي الله عنه تؤكد على مبدأ حرية الرأي والانتقاد والمطالبة بالحقوق والاعتراض على تجاوزات والولاة على الرعية؛ فلم يعترضوا على من جاء من الأمصار لعثمان لمناقشته، ونقد الانحراف الذي وقع من هؤلاء الأمراء، ومطالبته بتنحيتهم واستبدالهم بخير منهم، فلم يعترض ورأى أن هذا حق لهم، وقد سبقهم أهل الكوفة حين طلبوا من عمر بن الخطاب عزل سعد بن أبي وقاص، فاستجاب لهم رغم علمه بفضل سعد وسبقه وبلائه في الإسلام.
فالحرية في الإنسان أصل، ولهذا جاء الإسلام بالدعوة إلى الحرية وإلى تحرير الانسان ابتداء من الرق إلى حرية التفكير والتعبير والانتماء وقامت فكرة حرية التعبير والتفكير والانتماء على النصوص الشرعية الثابتة في مصادر التشريع الاسلامي – كتاب وسنة – وتجسد على ارض الواقع من خلال الخلفاء الأربعة المرضي عنهم كنماذج وقدوات يحتذي بهم كل من وكل إليه شيء من أمر هذه الامة.
وفي حياة هؤلاء الخلفاء العملية في إدارة شؤون الأمة دليل وقدوة حسنة على أنه لا يصلح امرها إلا بما صلح عليه أولها رضي الله عنهم جميعاً.