يأتينا شهر رمضان هذا العام، ليكون الثاني لنا في الظلال القاتمة لوباء "كوفيد- 19"، والذي لا تزال البشرية تحاول جاهدةً لمحاصرته.
وبينما لا يوجد في الأفق ما يقول بقرب انقشاع الغُمَّة، مع الصعوبات التي تواجه اللقاحات، وعدم قدرة الحكومات على الاستمرار في فرض قيود التباعد الاجتماعي والغلق بسبب فداحة الثمن الاقتصادي والاجتماعي التراكمي؛ فإنَّنا نقف أمام منظومة أتانا بها الإسلام الحنيف حاملةً الأدوات الأمثل للتعامُل مع مثل هذه الجائحة.
وتمثل منظومة شهر رمضان، سواء في مجال العبادة أو في غيرها مما يرتبط بالشهر الفضيل، علاجًا مثاليًا للوباء وتبعاته، سواء النفسية أو الاقتصادية والاجتماعية، أو على مستوى الإجراءات الوقائية.
وأبسط وأكثر الأمور ظاهرةً للعَيَان في ذلك؛ أنَّ شهر رمضان – خلافًا للظاهر – هو شهر العُزلة بامتياز، والتي هي حائط الوقاية الأولى ضد الوباء.
فأهم عبادات الشهر الفضيل، بعد الصوم؛ قيام الليل؛ صلاةً وتلاوةً للقرآن، وكلها عباداتٌ فردية، وحتى صلاة التراويح؛ ربما لا يعلم الكثيرُ من المسلمين أنما الأصلُ فيها، هو أنْ يؤدِّيها الإنسان وحيدًا.
والشهر الفضيل على مشقَّة العبادة في نهاره على وجه الخصوص؛ تتراجع أوقات العمل والشارع، وتكون فرصةً كبيرةُ للتأمُّل والمراجعة، والعودة إلى اللهِ تعالى؛ حيث تصفو النَّفس مع معينات اللهِ تعالى، مثل منح المسلم طاقة العبادة، ووضع مَرَدَةِ الشياطين في الأغلال.
فتكون الفرصة أقرب للتقرُّب إلى اللهِ تعالى، ولعلَّ أهم ما يمنحنا فيه رمضان الكورونا الثاني، هو أنْ نتأمَّل في أحوالنا في عامٍ مضى؛ حيث سوف نقف باستغرابٍ شديدٍ أمام حقيقة قد لا ندركها بسبب أنَّنا لا ننظر لها من بعيدٍ، ومنعتنا صروف الحياة اليومية من إدراكها، وهي كَم أنَّ اللهَ تعالى قد أنعمَ علينا، وقدَّرَنَا على أنْ تمضي بنا الحياةُ برغم الصعوبات المعيشية والاقتصادية العظيمة التي فرضتها ظروف الوباء.
سوف نجد أنَّنا قد استطعنا – بفضلٍ مِن اللهِ تعالى وحده – تجاوُز عامٍ مِن أصعب وأشقِّ ما يكون، وسوف نستغربَ للغاية كيف تجاوزناه، ووصلنا إلى شهر رمضان ونحن لم نزل بعد قادرين على خوض غمار الحياة وصوم الشهر الفضيل.
سوف نجد أنَّنا قد استطعنا – بفضلٍ مِن اللهِ تعالى وحده – تجاوُز عامٍ مِن أصعب وأشقِّ ما يكون، وسوف نستغربَ للغاية كيف تجاوزناه، ووصلنا إلى شهر رمضان ونحن لم نزل بعد قادرين على خوض غمار الحياة وصوم الشهر الفضيل
وإنَّ التأمُّل في الفترة ما بين الرمضانَيْن، وكُنَّا في بداية الجائحة نرى الفترة المقبلة ثقيلةً عصيبةً؛ سوف تلهمنا الكثير من الأمور حول أنَّنا ليس لنا مِن الأمر أيُّ شيءٍ، وإنَّما نعيش بفضلٍ مِن اللهِ تعالى ونِعَمِه ولطفِه بنا فحسب.
كذلك؛ فإنَّ الشهر الفضيل – بخلافِ ظنون البعض كذلك – هو شهر الزُّهد والتقشُّف، وليس شهر السَّرَف والتُّخْمَة، وهي – باعتقادي – مِن أهم الأمور المطلوبة في الظروف المعيشية التي فرضتها جائحة كورونا، مع ضعف الوارد المالي وانغلاق الكثير من أبواب الرزق أمام الكثيرين؛ فلن يكون أمامهم سوف التقشُّف والزُّهد.
ومِن كريم فضلِ اللهِ تعالى علينا في هذا الصدد، أنْ جَعَل ذلك عبادةً، بحيث نكون نحن الرابحين، ولا يجعل للشيطان الرجيم علينا سبيلاً في التفكير في شَظَفِ العَيش، أو في أنَّ اللهَ تعالى قد تخلَّى عنَّا!
وهنا نلتفتُ إلى ما القول المأثور في صفات جماعة المسلمين: "نحن قومٌ لا نأكل حتى نجوع وإذا ما أكلنا لا نشبع".
وبالرغم من عدم اعتباره حديثاً عند الكثير من العلماء فإنَّ الأخذ به وبمعانيه مطلوبٌ، في ظلِّ كونِه أولاً يتفق مع الكثير من معاني القرآن الكريم، والتي تدعو إلى القَصدِ وعدم الإسراف، وبالتالي؛ كونُه يدعو إلى مكارِم الأخلاق.
ويقول الإمام ابن باز في ذلك: "وهذا ينفع الإنسانَ إذا كان يأكلُ على جوعٍ أو حاجةٍ، وإذا أكلَ؛ لا يُسرف في الأكلِ، ويشبعُ الشَّبعَ الزَّائدَ، أمَّا الشَّبعَ الذي لا يضرُّ؛ فلا بأسَ به".
وإنَّ مِن أهمِّ ما ينبغي أنْ نتأمَّلَه في هذا الصدد، وأنْ نلومَ أنفسنا عليه، هو أنَّنا قد استجبنا مُرغَمِين لتبعات الوباء من زهدٍ وتَقشُّفٍ، بينما عندما دعانا اللهُ تعالى ورسوله الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى ذلك؛ كُنَّا مِن العاصين المخالفين إلَّا قليلاً!
وبعد؛ فإنَّ أهم علامات الإيمان ومفاتحه، هي أنْ نتأمَّل أحوالَنا بين رمضانَيْن في عصر الكورونا.
وإنَّ كلَّ هذه العلامات، ومنها أحوالٌ وأمورٌ كُنَّا نظنُّ أنَّه من شديد الاستحالة أنْ تمرَّ بنا، لهي أوجَبُ بنا أنْ نفعل كل ما بوسعنا لكي نقتربَ مِن اللهِ تعالى؛ حيث هو مفتاح النجاةِ الوحيد في ظل هذه الظروف، وفي عموم ظروف الدُّنيا وفي يوم المشهدِ العظيمِ في الآخرة.
وإنَّ أهم ما ينبغي علينا القيام به في هذا الصدد، هو شكر النعمة، وأول درجاته، حَمْدُ اللهِ تعالى وشكره، والاعتراف بعظيمِ عطائه ومنَّتِهِ علينا، والوفاء بشكُرِ النعمة، وهو ما يكون بتوظيفها في الخيرِ، وفي طاعةِ اللهِ تعالى.
الأمر الآخر، هو أنْ نتفادى كُلَّ صُوَرِ المعاصي والذنوب، ليس خشيةً مِن اللهِ تعالى فحسب، فهو أرحمُ الراحمين، ولكن أيضًا صيانةً لجَميلِ صنائعه، وعرفانًا للإله القديرِ القيِّومُ، والخزي مِن أنْ نُقَابِلَ عطاياه بالنكران والعصيان.
وربما يكون من أنسب العبادات في الشهرِ الفضيلِ، هو الخلوةُ إلى اللهِ تعالى، وانتهاز ساعات الدُّنُوِّ والقرب، وبالذات قبيل الإفطار، وفي الثُّلُثِ الأخير من الليل، وبذلِ كُلَّ صُوَرِ المناجاةِ لله العزيز الحكيم، والتضرُّعُ والابتهالُ إليه لرفع البلاء عَنَّا، وإغاثتنا؛ حيث لا ملجأ منه إلَّا إليه، مهما بلغنا من نواصي الدُّنيا!