مدرسة شهر رمضان الفضيل تُقبلُ علينا بِحلّتهاِ القشيبة حَاملة معها نفحَاتهِ القُدسيّة الشذيّة، تلكُمُ النفحاتِ التي تتنسّم منها الأرواحُ الطاهرة النقيّة روائحَ الجِنَان، وتبصرُ بها عيون القلوب طريقها إلى باب الريّان؛ ذلك الباب الذي خصّه الله تعالى للصائمين. يقول رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ، أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ". (صحيح الإمام مسلم)
إنها مدرسة رمضان الطُّهر، والنقاء، والتّقوى... نعم. التقوى تلكُمُ الثمرة اليانعة الغالية التي يريد الله تعالى منّا أن ننالها عن جَدارة في العمل واستحقاق مَبعثه الإيمانُ الراسخ المتجذر في القلوب، وذلك في قوله عزّ من قائل: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة:183].
نعم. تلك الثمرة العزيزةُ النَّفيسة التي إنْ حَازها العبدُ وَظَفِرَ بها استقامتْ له قناةُ الحياة بكل معانيها وتفاصيلها، وباتَ حينئذٍ عبدا ربّانيا تتجلى فيه سِماتُ عباد الرحمن الطائعينَ المُخبتينَ الخاشعينَ المُنيبينَ المُتبتّلين الراكعين الساجدين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؛ فكانَ لهم فِي شُخوصهم منها جلالُ المَبنى وجمالُ المعنى، ويغدو المسلمُ بها مُعظما لشعائر الله تعالى كُلِّها بلا استثناء مِصداق قوله عزَّ من قائل: "َذٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ شَعَٰٓائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوب} [الحج:32].
إنها مدرسة رمضان الأخلاق الساميةِ التي يَصير فيها العبد المؤمنُ تلميذا نجيبا يتمثلُ فيها معاني ومضامين الأخلاق في القرآن الكريم بأبهى الصور وهو يسير على هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ولقد لخّصت أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها المقال للسائل عن خُلقه -صلى الله عليه وسلم- بقولها: " فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ القرآنَ".(صحيح الإمام مسلم).
وعليه فالمسلم يتمثّل في مدرسة رمضان الصبر بكل صوره، والحِلمَ بكل معانيه، والأناة والرفق في أرفع المستويات؛ فلا يصخبُ ولا يغتاب ولا ينمُّ ولا يُجادل بالباطل، ولا يشتغل بلغو الحديث ولهوه ، ولا يشهد الزُّور، ولا يكذِبُ، ولا يغشُّ، ولا يخون الأمَانة، ولا ينقض العهود والمواثيق... تراهُ يغض البصر عن الحُرمات، ويصل الأرحام، ويحفظ حقوق الجيران، وإذا ما قابله أحدٌ بالسبِّ أوالانتقاص كان ضابطا لغيظه وغضَبِه متمثلا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يقول فيه : " إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ "(صحيح الإمام مسلم). ولفظهُ عند الإمام البخاري:" الصِّيَامُ جُنَّة فلا يرفُثْ ولا يَجْهَل، وإنْ امرؤٌ قاتلَهُ أو شاتَمَهُ فليقل: إنِّي صائمٌ مرتين"(صحيح الإمام البخاري).
إنها مدرسة قراءة القرآن الكريم في شهر القرآن حيث قال الله تعالى: "شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَان" [البقرة:185]. إنها مدرسة إيقاظ القلوب من سُباتها وغفلتها بتدبر آياته مصداق قول الله تبارك وتعالى :"أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ" [محمد:24].
إنها مدرسة رمضان العطايا والمَكرُماتِ والجود والبذل والإنفاق والصَّدقاتِ في وجوه الخير، إنها مدرسة إطعام الطعام، ورعاية الفقراء، والمساكين، والأرامل، والأيتام؛ حيثُ يتمثل فيها المسلم ما أخبر به عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَلْقَاهُ، فِي كُلِّ سَنَةٍ، فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ""(متفق عليه، ولفظه للإمام مسلم).
إنها مدرسة ليلةِ القَدْر التي قال الله تعالى عنها :"لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَيۡرٞ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرٖ * تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمۡرٖ * سَلَٰمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطۡلَعِ ٱلۡفَجۡر "[القدر:3-5].
إنها مدرسة المُناجاة والدعاء ورفع أكُفِّ الضراعة إلى الله تعالى طلبًا للرحمة، والمغفرة، والعتق من النيرانِ، وأملا في بلوغ الرّشد الإيماني؛ ذلك الهدف السَّامي الذي سطّره القرآن الكريم في قول الله تعالى: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ
فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُون" [البقرة:186 ].ومتى بلغ العبدُ الرُّشد الإيماني صار ربّانيا في كُلِّ حركاته وسكناته، وارتقى مَدارج الكمال.
فهنيئا لمن كان متميزا في مدرسة رمضان، وطوبى لمن ربح بيعهُ، وزكتْ جوارِحُه، وقُبل صَومُهُ، وزاد إيمانهُ وتقواه، وارتقت أخلاقه، ووصلَ أرحامهُ، وغُفر ذنبُه، ووقع له العتق من النيران... طوبى له البشرى بالمَوعدُ مع سيّد الصائمين وإمام المتقين -صلى الله عليه وسلم- على باب الريَّان.
_________________
أستاذ الحديث الشريف وعلومه-جامعة اليرموك
عضو رابطة علماء الأردن