آية الكُرسي وما أدراك ما آية الكُرسي! فضلها عظيم وخيرها عميم، قدرها كبير وثوابها فوق أن يخطر ببال بشر، قال عنها النبي ﷺ أنها أعظم آية في كتاب الله.
سميت الآية بـ "آية الكرسي" لذكر الكُرسي فيها، ولقد ورد وصف الكُرسي في الحديث الذى رواه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "ما السمواتُ السبعُ في الكُرسيِّ إلا كحَلْقةٍ مُلقاةٍ بأرضٍ فلاةٍ، وفضلُ العرشِ على الكُرسيِّ كفضلِ تلك الفلاةِ على تلك الحلْقةِ" (السلسلة الصحيحة).
إن الكُرسي هو أساس الحكم ورمز الملك، وهو الدال على الألوهية المُطلقة.
بدأ الله تعالى آية الكُرسي باسمه (الله) وختمها باسمه (العلي العظيم)، وجعل بينهما من الأسماء والصفات ما لا يوجد في آية أخرى.
أولاً: بعض الأحاديث في فضل آية الكُرسي
1- عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول اللّه ﷺ قال: "مَنْ قرأَ آيةً الكُرسِيِّ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ، لمْ يمنعْهُ من دُخُولِ الجنةَ إلَّا أنْ يمُوتَ" (صحيح الجامع).
2- عن واثلة بن الأسقع الليثي أبو فسيلة رضي الله عنه إنَّ النَّبيَّ ﷺ جاءَهم في صفَّةِ المُهاجرينَ فسألَهُ إنسانٌ أيُّ آيةٍ في القرآنِ أعظمُ؟ قالَ النَّبيُّ ﷺ: "اللَّهُ لاَ إلَهَ إلاَّ هوَ الحىُّ القيُّومُ لاَ تأخذُهُ سنةٌ ولاَ نومٌ" (رواه أبو داود).
3- عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "اسمُ اللهِ الأعظمُ في سُوَرٍ من القرآنِ ثلاثٍ، في "البقرةِ " و "آلِ عمرانَ" و "طه" (السلسلة الصحيحة).
قال أبو عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن -راوٍ من التابعين-: "فالتمست في البقرة، فإذا هو في آية الكُرسي: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم)، وفي آل عمران فاتحتها: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم)، وفي طه: (وعنت الوجوه للحي القيوم)"أهـ.
قال النووي في شرح صحيح مسلم في شأن آية الكُرسي: "قال العلماء إنما تميزت آية الكُرسي بكونها أعظم لما جمعت من أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والملك والقدرة والإرادة وهذه السبعة أصول الأسماء والصفات" اهـ.
جاء في تفسير القرطبي: "فكان عبد الرحمن بن عوف إذا دخل بيته قرأ آية الكُرسي في زوايا بيته الأربع، معناه كأنه يلتمس بذلك أن تكون له حارساً من جوانبه الأربع، وأن تنفي عنه الشيطان من زوايا بيته" اهـ.
يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله عن معاني "آية الكُرسي": "إذا تأملت جملة هذه المعاني ثم تلوت جميع آيات القرآن لم تجد جملة هذه المعاني من التوحيد والتقديس وشرح الصفات العُلى مجموعة في آية واحدة منها فلذلك قال النبي ﷺ سيدة آي القرآن فإن {شَهِدَ اللّهُ} ليس فيه إلا التوحيد { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ليس فيه إلا التوحيد والتقديس {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} ليس فيه إلا الأفعال وكمال القدرة" أهـ.
ثانياً: عِبَر وأسرار من آية الكُرسي
إن من أراد أن يحسِن تدبر هذه الآية فليقسمها إلى عشر مقاطع، وليتدبر كل مقطع على حدة، وسيفتح الله تعالى له فتحاً عظيماً من عبر وأسرار الآية التي لا يُسْبَر قعرها ولا يُدرك مُنتهاها، وذلك على النحو التالي:-
1- قوله تعالى: "اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ".
الله تعالى هو المعبود الذي تألهه القلوب محبة، ورجاء، وخشية، وتعظيماً.
إن لفظ الجلالة "الله" هو أعظم الأسماء الحسنى، وكل الأسماء الحسنى والصفات العليا لاحقة به.
إن المسلم يوقن أنه لا معبود بحق سِوى الله تعالى، فالآلهة وإن كانت كثيرة إلا أنه لا شيء منها يستحق العبادة من دون الله تعالى، فهو سبحانه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفُواً أحد.
2- قوله تعالى: "الْحَيُّ الْقَيُّومُ".
* قوله تعالى: "الْحَيُّ الْقَيُّومُ": قال كثير من أهل العلم أنه اسم الله الأعظم الذي إذا دُعِي به أجاب.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "فهو (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) الذي لكمال حياته وقيوميته لا تأخذه سنة ولا نوم، مالك السموات والأرض الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أَحد إِلا بإِذنه".
* ولم يقترن اسمه سبحانه (الحي) إلا باسمه (القيوم)، وأن هذين الاسمين، مذكوران في القرآن الكريم معا في ثلاث سور (البقرة، آل عمران، طه)، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى.
على المسلم أن يوقن أن الحياة بالنسبة لله تعالى أبدية سرمدية لا بداية لها ولا نهاية، بعكس حياة كل الخلائق، حيث يسبقها عدم، ويلحقها الفناء والموت، وتتقلب في أطوار الضعف والقوة والصحة والمرض، وحاشاه سبحانه أن يكون كذلك.
وعلى المسلم أن يوقن أن الله تعالى هو القائم بنفسه، والقائم على شئون الخلائق، ولا قيام ولا قوام للخلائق إلا بقدرته وأمره ومشيئته. وكل الخلائق مفتقرة إليه سبحانه وهو سبحانه غني عنها.
3- قوله تعالى: "لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ".
سبحان من لا تعتريه الغفلة، ولا يرِد إليه النعاس، ولا ينام أبداً.
سبحان من هو شهيد على كل شيء في خلقه، لا يغيب عنه مثقال ذرة ولا أقل من ذلك، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "إنَّ اللهَ لا ينامُ ولا ينبغي له أنْ ينامَ يخفِضُ القِسطَ ويرفَعُه يُرفَعُ إليه عملُ النَّهارِ قبْلَ اللَّيلِ وعمَلُ اللَّيلِ قبْلَ النَّهارِ حجابُه النُّورُ لو كُشِف طبَقُها أحرَق سُبُحاتُ وجهِه كلَّ شيءٍ أدرَكه بصرُه واضعٌ يدَه لِمُسيءِ اللَّيلِ ليتوبَ بالنَّهارِ ولِمُسيءِ النَّهارِ ليتوبَ باللَّيلِ حتَّى تطلُعَ الشَّمسُ مِن مغربِها" (صحيح ابن حبان).
4- قوله تعالى: "لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ".
"لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {120}" (المائدة: 120).
فالكل عبيده، والكل تحت ملكه وقهره وسلطانه، لا يتحرك مُتحرك إلا بإذنه، ولا يسكن ساكن إلا بعلمه، وهو سبحانه المتصرف في شئون عباده وأحوالهم.
5- قوله تعالى: "مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ".
فالشفاعة بيد الله وحده، لا يخص بها ملَك مُقرَّب ولا نبي مُرْسَل، ولن يشفع أحد لأحد إلا بعد أن يأذن الله للشافع، وبعد أن يرضى عن المشفوع. قال تعالى: "وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى {26}" (النجم: 26).
6- قوله تعالى: "يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ".
فالله تعالى علم ما كان وما هو كائن وما سيكون، وما لا يكون لو كان كيف كان يكون.
قال ابن القيم الجوزية في نونيته:
وهو العليم أحــاط علماً بالــذي *** في الكون من سِر ومن إعلانِ
وبكــل شيء علمـه سبحــانـه *** فهو المحيط وليس ذا نسيــانِ
وكـذاك يعلـم مـا يكون غداً وما *** قد كان والموجود في ذا الآنِ
وكذاك أمـر لــم يكــن لــو كـــان *** كيف يكون ذاك الأمرُ ذا إمكانِ
7- قوله تعالى: "وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء".
إن علم الله تعالى أجلُّ وأعظم من أن يُقارن بعلم أحد من خلقه، فعلم الله تعالى لا تحده حدود، ولا تُدركه الأفهام، ولا يصل إليه بشر. وعلم الله تعالى لا يسبقه جهلٌ ولا يُنسى.
كلما ازداد علم الإنسان بالله تعالى، كان أكثر حياءً من الله، وأكثر تأدبًا مع الله، وأكثر خشيةً لله .والعلم الذي يختص الله تعالى به العباد عِلمان، علم الدنيا وعلم الآخرة، فعلم الدنيا لهوانه على الله تعالى لم يَحجبْه عن أحد من خلقه، وأما علم الآخرة، فيؤتي منه مَن يشاء بقدر منه سبحانه وتعالى وبفَضله وبرحمته.
والعلم النافع الذي يختص الله تعالى به عباده الصالحين يتولَّد عنه المحبة واليقين، وهما يُثمران كل عمل صالح، وهدى مستقيم.
8- قوله تعالى: "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ".
يقول الضحاك رحمه الله: "الكُرسي هو الذي يوضع تحت العرش، يجعل الملوك عليه أقدامهم".
* وسبق ذكر حديث وصف الكرسي وفضله مُقارنة بالعرش.
9- قوله تعالى: "وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا".
إن الله تعالى لا يُعجزه حفظ السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى وكل ما هو دون ذلك، بل ذلك سهل عليه يسير، فحفظ الله تعالى للسماوات والأرض هو حفظ قدرة وعلم وإحاطة وتصريف.
10- قوله تعالى: "وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ".
إن علو الله تعالى يعني أنه سبحانه العالي فوق جميع خلقه، وهذا العلو يشمل المنزلة والقهر والسلطان وكل شيء.
إن علو الله تعالى يشمل كل الوجوه على الإطلاق:
علو الذات: فهو العلي بذاته فوق جميع خلقه، فهو سبحانه علا وارتفع واستوى على عرشه.
علو القدر والصفات: فلا أعلى منها ولا مثيل لها.
علو القهر والغلبة: فهو القاهر الذي لا يُقهر، والغالب الذي لا يُغلب.
علوه سبحانه من كل النقائص والآفات والعيوب.
إن عظمة الله تعالى تبين أنه لا أعظم منه سبحانه، في ذاته وصفاته وأفعاله، وهو وحده سبحانه المستحق للتعظيم على الإطلاق، وأنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.
وأخيراً أقول
إن من تمسك بآية الكُرسي حفظته، ومن حفظته رفعته، ومن رفعته فهو من المقربين الذين هم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وإن من يفوته معرفة أسرار (آية الكُرسي) فقد فاته خيراً كثيراً، لأن معرفة هذه الأسرار تساعد على علو الهمة وإقبال القلب وإخلاص النية وكلها من موجبات القبول.