تقبل الله طاعتكم ومن النار أعتقكم وبرضاه أسعدكم وبالجنة بشركم
ها هو شهر رمضان قد انقضى ففاز فيه من أقبل على الطاعة إقبالاً فصام وصلى وقام، وتصدق ووصل الأرحام، وذاق طعم الطاعة فعزم عزماً أكيداً على صدق التوبة وحُسن العمل فيما بقي من عمره إلى أن يُبلغه الله حسن الختام.
ها هو رمضان قد انقضى وجاء يوم الجائزة فافرحوا.
افرحوا فالفرح من شعائر ديننا ومن هدي نبينا ﷺ.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كانَ لأهْلِ الجاهليَّةِ يومانِ في كلِّ سنَةٍ يلعَبونَ فيها فلَمَّا قدمَ النَّبيُّ ﷺ المدينةَ قالَ كانَ لَكُم يومانِ تلعَبونَ فيهِما وقد أبدلَكُمُ اللَّهُ بِهِما خيرًا منهُما يومَ الفطرِ، ويومَ الأضحى" (رواه النسائي).
افرحوا بفضل الله تعالى عليكم أن جعلكم من أمة الإسلام.
وافرحوا برحمته سبحانه بكم أن جعلكم من المؤمنين الصالحين.
وافرحوا بأنه سبحانه هداكم للإيمان، وقذف في قلوبكم التقوى، وأعانكم على فعل الطاعات.
وافرحوا بأنه سبحانه شرح صدوركم فرحاً بما قدَّمتم من طاعات واستبشاراً بما لكم عند الله تعالى، وما عنده سبحانه خير وأبقى.
قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
افرحوا فربكم كريم لم يجعل الرحمة في يد أحد من العباد يتحكم بها في مصائر الخلق، بل جعلها بيده وبقدره وقدرته ومشيئته، يختص بها من يشاء من عباده.
قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [فاطر:2].
وقال تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى {43} وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا {44}] [النجم:43-44].
دخل رجل على الإمام عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه في يوم عيد الفِطر، فوجده يأكل طعامًا خشنًا، فقال له: يا أمير المؤمنين، تأكل طعامًا خشنًا في يوم العيد!! فقال له الإمام عليٌّ كرم الله وجهه: اعلمْ يا أخي، أنَّ العيد لِمَن قَبِل الله صومَه، وغفر ذنبَه، ثم قال له: اليوم لنا عيد، وغدًا لنا عيد، وكل يوم لا نعصى الله فيه فهو عندنا عِيد.
وقال الحسن رحمه الله: "كل يوم لا يُعصَى الله فيه فهو عيد، وكلُّ يوم يقطعه المؤمن في طاعة مولاه وذِكْره وشكره فهو له عِيد".
ورحم الله الإمام ابن تيمية حيث قال: "أنا جنتي وبستاني في صدري أنَّى اتجهت فهي معي لا تفارقني... أنا سجني خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة".
وقال الإمام إبراهيم بن أدهم: "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السرور والنعيم إذًا لجالدونا عليه بالسيوف".
أحبائي في الله
إن من ينظر لبعض بيوتنا ويتفقد أحوالها يجد أن فيها من دواعي الهم والحَزَن ودواعي البكاء والألم ما لو وُزِّعت على أهل الأرض لكفتهم، ولكنك إذا دخلت معظم هذه البيوت وجالست أهلها فلن تجد سوى الرضا والتسليم بل والفرح بقضاء الله وحُكمه في أهل هذا البيت.
ولمَ لا، وهؤلاء قد تربوا على مائدة القرآن!
ولمَ لا، وهم يعلمون جيداً أن تضحيتهم مأجورة ولن تضيع عبثاً!
ولمَ لا، وهم يوقنون أن أمر المؤمن كله خير!
ولمَ لا، وهم فرحون بأن الله تعالى لم يجعل مصيبتهم في دينهم!
افرحوا كما لو كنتم لم تفرحوا من قبل
افرحوا جميعاً بعيدكم وزينوا بيوتكم واملؤوها بالسعادة.
إنني بكلامي هذا لا أريد أن أجردكم من مشاعركم ولا أن أخرجكم عن طبيعتكم البشرية، فأنا أعلم الناس بمكنون صدوركم وما فيها من ألم وأسى وجراح، سواء على المستوى العام لما تمر به أمتنا أو على المستوى الخاص لما تعانونه من ظلم واضطهاد أو لما تقاسمونه عموم الناس من فقر ومعاناة!!
إن فرحكم أنتم دون غيركم من الناس هو الرصاص الذي يكيد أعداء أمتكم، وابتسامتكم أقوى من الرصاص في صدور شانئيكم ومبغضيكم!!
إنكم بفرحكم تُعكِّرون صفو عيد أعدائكم وشانئيكم ومبغضيكم!!
إنكم بفرحكم تُفسدون فرحتهم فأنتم أحق بالفرح منهم وهم ما لهم إلا الهم والغم والمعيشة الضنكى.
افرحوا كما لو كنتم لم تفرحوا من قبل فأنتم الأعلون
زاحموا الجراح والآلام داخل قلوبكم بالضحكات، فأنتم الأعلون!
زاحموا زفرات الأسى وغصَّة الحلق بالابتسامات، فأنتم الأعلون!
املأوا وجوهكم بالبشر والسرور، فأنتم الأعلون!
تسامحوا وتغافروا وليعذر بعضكم بعضاً، فأنتم الأعلون!
تزاوروا وتهادوا وتحابوا وتكافلوا وتناصحوا، فأنتم الأعلون!
تفائلوا وبشروا ولا تنفروا، واصبروا وصابروا، فأنتم الأعلون!
انثروا الأمل في قلوبكم وقلوب من حولكم، وانزعوا منها اليأس والقنوط، فأنتم الأعلون!
أنتم الأعلون بإيمانكم وبتقواكم لربكم.
أنتم الأعلون بثباتكم على الحق وعلو هِمَّتكم.
أنتم الأعلون ببذلكم وتضحياتكم.
أنتم الأعلون بأخلاقكم وسيرتكم العطرة.
أنتم الأعلون بعزتكم وكرامتكم في زمن تباع فيه العزة والكرامة بثمن بخس.
أنتم الأعلون بنصرتكم لدين الله في زمن خذله وتخاذل عنه من يمثلونه ويتحدثون باسمه.
أنتم الأعلون بنصاعة تاريخكم ونزاهة ضمائركم وبياض أيديكم وإخلاص نواياكم.
أنتم الأعلون ولا نزكي على الله أحداً فالله ولينا ووليكم وحسيبنا وحسيبكم وهو سبحانه نعم المولى ونعم النصير .
وأخيراً أقول:
إن السعادة أمر معنوي، فما يُسعِد هذا ربما يُشقي ذاك. وما يجلب لهذا الفرح والسرور ربما يجر على غيره الحزن والأسى. وإن من تأمل السعادة في أسبابها وجد لديه الكثير منها ولكننا نغفل عمَّا بين أيدينا ونبحث عما ينقصنا ونلهث خلفه فيشقينا فلا ننعم بهذا ولا ندرك ذاك.
تقبل الله طاعتكم ومن النار أعتقكم وبرضاه أسعدكم وبالجنة بشركم
كل عام أنتم بخير