سورة سبأ سورة مكية، وهي بذلك تعالج موضوعات القرآن المكي والتي منها قضية البعث والحساب يوم القيامة، ولقد ذكرت السورة إنكار الكافرين للبعث في أكثر من موضع، ففي مطلع السورة يقول تعالى:" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ".
وفي موضع آخر جاء إنكارهم للبعث على سبيل التهكم والسخرية:" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ".
فيطلب الله من نبيه أن يقسم للكافرين الذين عذّبوهم وحاصروهم في شعب أبي طالب - وقد نزلت السورة في أعقاب تلك الفترة - أن الساعة آتية في أسلوب قوي فريد " قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ " وعندها ستبعثون ثم تحاسبون على أعمالكم وجرائمكم في حق المؤمنين.
وأما المناسبة بين ذكر علم الله المحيط بكل شيء، وأنه لا يغيب عن علمه مثقال ذرة في السماء والأرض وبين ذكر الساعة، ليوبخ الكافرين ويؤكد لهم أنهم مبعوثوثون في ذلك اليوم وأنهم محاسبون على أعمالهم، ومجزيون بها، وأن جرائمهم لن تمر بغير حساب.
فأما المؤمنون فيفرحون بمغفرة الله وثوابه:" لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ " وأما الكافرون فينتظرهم العذاب الأليم:" وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ".
وتأمل وصفه تبارك وتعالى لعمل الكافرين في الدنيا " وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ" ومعنى "معاجزين" أي يحسبون أن الله يعجز عنهم ولا يقدر عليه أو يعاجزون أنبياءه وأتباعهم ويعادونهم ويقاتلونهم، والمقصود: أي ظنوا بكفرهم بآيتنا ومكرهم بهذا الدين وأهله أنهم يسبقونا ولا نقدر عليهم، فكانت خيبة أملهم بنصرة الله لدينه في الدنيا وبالعذاب الأليم لهم في الآخرة.
وفي هذا بشارة للمؤمنين الذين خرجوا من شعب أبي طالب وهم ضعفاء مقهورين، أن عدوهم لن يعجز الله ولن يحقق غايته، بل ستكون الدائرة عليهم ومصيرهم إلى أشد العذاب يوم القيامة ولذلك يخبرالله أنه لا يعجزه أن ينزل عليهم العذاب أو الخسف من فوقهم من السماء أو من تحتهم من الأرض:" إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ".
ولذلك فأولى للمؤمنين أن يتمسكوا بهذ الحق الذي أنزله الله عليهم، فإنه لا يتمسك به إلا صاحب علم وبصيرة، وسيكون على هدى وصراط مستقيم:" وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ " أما من أعرض عن طريق الحق فلا يتولى عنه إلا كل جاهل وضال قال تعالى:" بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخرة فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ".
ثم تعود السورة لتردّ مرة أخرى على إنكار الكافرين للبعث والحساب وتؤكد أن يوم القيامة سيكون بميعاد محدد لن يتقدم أو يتأخر عنه:" وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ".
بل وتذكر السورة مشاهد لأولئك المكذبين المنكرين يوم القيامة، منها مشهد اللوم والمعاتبة فيما بين المستضعفين والمستكبرين:" وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا".
وكذلك مشهد الندامة والحسرة عند معاينة العذاب:" وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ".
ومشهد وضع الأغلال في أعناقهم تمهيدا لجرّهم إلى النار وبئس المصير:" وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ".
ومشهد الافتقار وقلة الحيلة فلا ينفع أحدٌ أحداً:" فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ".
ومشهد الفزع والخوف، فلا نجاة ولا مهرب من العذاب الذي كانوا يظنونه بعيدا فإذا هو قريب:" وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ".
ومشهد فقدان الأمل وضياع الفرصة لتناول الايمان والرجعة إلى الدنيا بعد أن صاروا في مكان بعيد عنها وهو الآخرة التي كانوا يكفرون بها وينكرونها من قبل:" وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ".
ومن الوقفات مع ألفاظ هذه الأيات قوله تعالى " موقوفون عند ربهم " اي محبوسون في موقف الحساب منذ وقت طويل في ذل وخزي وعار وقوله " بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ" إشارة إلى ما يبذله أهل الكفر والباطل من كيد ومكر ضد هذا الدين الحق في كل وقت وحين، وأنهم لا يتعبون ولا يفترون في ليل أو نهار في الصدّ عنه، فلم يقل " مكرٌ بالليل والنهار " بل قال "مكر الليل والنهار " لتدل هذه الإضافة على الدُّؤوب والدوام.
وقوله " أنحن صددناكم عن الهدى " يعترفون الآن أنه الهدى وهم الذين كانوا ينكرون الوحي والقرآن في الدنيا كما ذكر الله عنهم في هذه السورة:" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ".
وقول المستكبرين للضعفاء:" بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ " إشارة أن الكفر والإجرام متأصّل في نفوسهم وأن قابليتهم للضلال موجودة أصلا فيهم،وما ذلك إلا تحقيقا لشهواتكم ومصالحكم، وفي تنازع الضعفاء والكبراء يوم القيامة دليل على أن كل ولاء وتبعيّة مبنيّة على غير شرع الله تنقلب إلى عداوة.
وقوله تعالى: " هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " إشارة إلى عدل الله المطلق يوم القيامة عند الحساب.
ويأتي ختام السورة في دعوةٍ لتدارك الوقت واغتنام الفرصة بالايمان والعمل الصالح قبل أن يأتي ذلك اليوم، يوم القيامة الذي يهدم اللذات ويفصل بينك وبين الشهوات، التي تعلق بها قلبك واشتهتها نفسك، ولك فيمن مضى عبرة.
إنه اليقين الصادق والوعد القادم الذي لا ريب فيه، وعندها يفرح المؤمنون ويخسر الكافرون:" وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ".