شهر رمضان، هو شهر العبادات، وتتنوَّع فيه الطاعات، لكن تبقى أهم العبادات المرتبطة بالشهر الفضيل بعد الصيام، هي قراءة القرآن الكريم.
وتُعتبر ختمة القرآن الكريم، مِن أهم الأمور التي يحرص عليها كلُّ مسلمٍ في كل موسمٍ رمضاني، لكننا نقف أمام بعض الأمور التي يقوم بها الكثير من المسلمين، بحيث تُخرِج هذه العبادة عن مستهدفاتها؛ فلا تحقق المرجو منها.
ومِن بين أبرز هذه الأمور، استسهال الكثيرين في التعامل مع النَّص القرآني؛ حيث لا يلتزم القارئ بأحكام التلاوة؛ ظنًّا منه أنَّها مِن نافلة القول، بينما هي على أكبر قدرٍ من الأهمية، فعلامات الوقت والمدِّ والالتزام بتشكيل الحروف؛ هي الأداة الأساسية التي يفهم بها الإنسان كلامَ اللهِ تعالى.
فَرُبَّ خطأ في التشكيل، أو في علامات الوقف، يقود إلى تغييرٍ شاملٍ في معنى الآيات، وهو ما لا يجوز الوقوع فيه.
والبعض في هذا الإطار، يُخطئ في تفسير بعض الأحكام والهَدي النبوي المتعلقة بتلاوة القرآن الكريم، مثل أنَّ القرآن الكريم، هو "المتعبًّد بتلاوته"، وأنَّ "الذي عليه شاقٌّ؛ فله أجران"؛ حيث يقود ذلك إلى بعض التساهل غير الواجب مع كتاب اللهِ تعالى.
فـ"المُتَعَبَّد بتلاوته"، لا تعني إهمال الهدف الأهم من التواصُل مع النَّصِّ القرآني، وهو فهمه والعمل به، وهو ما لا يتمُّ من دون تدبُّر الآيات.
والأمر في ذلك قريبٌ مِن منهج بعض كبار صحابة الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، عندما كانوا لا يحفظون من القرآن الكريم إلا بعد فهم ما حفظوه، والعمل به، وكان منهم عمر بن الخطاب (رضي اللهُ عنه) نفسه.
ولو تأملنا بعض معالم التاريخ الإسلامي؛ سوف نجد أنَّ حَفَظَة القرآن الكريم، كانوا من الندرة بمكان، بحيث عندما استُشهِد منهم في عدد من الغزوات، وفي حروب الرِّدَّة؛ كان لزامًا تدوين وجمع القرآن الكريم في مصحفٍ واحدٍ.
فالأمر ليس بالتبسيط الذي ينحوه البعض، بحيث رأينا أمورًا عجبًا في ذلك، مثل قيام البعض بإجراء "سباق" لختم القرآن الكريم في يومٍ واحدٍ، أو في ليلةٍ واحدةٍ، فكيف يتحقق مع ذلك، فهم ما نقرأ؛ فهمًا أوليًّا حتى؟!..
البعض يستند في ذلك إلى بعض القصص المروية عن بعض الأئمة من السلف الصالح، ممَّن كان يُقال عليهم أنهم كانوا يختمون القرآن في ليلةٍ، أو يتمون سُورَة "البقرة" أو سُورَة "آل عمران"، في ركعةٍ أو في سجدةٍ واحدةٍ.
قد يكون بعض هذه القصص صحيحًا، لكنَّها ليست قاعدة للتعميم، ولكن للأسف؛ بعض أئمة المساجد يقمون بذلك في صلوات التراويح والقيام وخلفهم مصلُّون، وبالتأكيد لا يطيقون ذلك، ومنحهم الشرع الحنيف الحق في ترك الإمام الذي يشقُّ عليهم بذلك الأمر، والدليل الشرعي من السُّنَّة النبوية واضحٌ في ذلك.
فلقد أوصى الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، بقراءة سُوَرٍ كـ"الغاشية" و"العلق" و"البروج"، وما يساويها في الظهر والعصر والعشاء، وهكذا دون ذلك في المغرب، مثل "الزلزلة" و"العاديات" و"الضحى" وأشباه ذلك [الشيخ ابن باز]، ولم نجد فارقًا في ذلك بين صلاة جماعة رمضان، والجماعة في غير رمضان، بينما لم تُسَنُّ التراويح جماعةً إلا في عهد الفاروق عمر.
ولقد نهى اللهُ تعالى رسولَه الكريم "عليه الصلاة والسلام" في القرآن الكريم عن فعل أمرٍ مُشابه؛ حيث يقول تعالى في سُورَة "القيامة": {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}.
وفي ذلك، يقول المفسرون، ومنهم الطبري، إن ابن عباس (رضي اللهُ عنهما)، قال إنَّ النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، كان إذا نزل عليه جبريل (عليه السلام) بالوحي، كان يحرك به لسانه وشفتَيْه، فيشتدُّ عليه، وكان يُعرَف ذلك فيه، فأنزل الله هذه الآيات، والتي تؤكد الآية الأخيرة فيها، الآية التاسعة عشرة، أنَّ بيان القرآن الكريم، أهم من قراءته نصًّا فقط، وعلى عِظَم هذا الأمر؛ اختصَّ اللهُ تعالى نفسه به لنبيه "عليه الصلاة والسلام".
وإنَّ قراءة القرآن الكريم منضبطة بضوابط شرعية يجب الالتزام بها في هذا الصدد.
ومن بين ذلك، ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح، عن عبد اللهِ بن عمرو (رضي اللهُ عنهما)، أنَّ رسول الله "صلَّى الله عليه وسلَّم"، قال: "اقرأ القرآن في شهر"، فقال عبد الله بن عمرو: إني أجدُ قوة، وظل كذلك حتى قال الرسول "عليه الصلاة والسلام: "فأقرأه فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ على ذلك".
أما الترمذي وأبو داوود وابن ماجة، فقد أخرجوا حديثًا آخر عن عبد الله بن عمرو أيضًا، قال فيه الرسول "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم": "لا يفقَه مَن قرأ القرآن في أقلِّ من ثلاثٍ" [صححه الألباني في سنن ابن ماجه].
وبالتالي؛ فإنَّ كثيرًا من عوام المسلمين وأئمة المساجد؛ يقعون في أخطاء فادحة في حقِّ كتابِ اللهِ تعالى؛ حيث إنَّ الهدف الأسمى من وراء التلاوة، هو ربط المسلم بمعاني القرآن الكريم، والالتزام بالتعاليم الواردة فيه، وفهم مُراداتِ اللهِ عزَّ وجلَّ مِن كلِّ كلمةٍ وكلِّ آيةٍ فيه، والعمل بها.
ولرُبَّ آيةٍ يفهمها ويعيها المسلم، تكون سببًا في نجاته في الدنيا والآخرة، وبالتالي؛ فإنَّ الأمر على أكبر قدرٍ من الأهمية، ولا ينبغي أخذ ختم القرآن الكريم في رمضان على أنَّه أمرٌ مراسيمي، ومجرد طقوس للشهر الفضيل.