بين البردة والنونية

الرئيسية » بأقلامكم » بين البردة والنونية
poem-approach-approach-to-ahmed-shawky

قصيدتان من عيون الشعر العربي، تمثل كل واحدة منهما مذهبا دينيا إسلاميا، ولأن الأصل أنه لا مشاحّة في الاصطلاح، فأرجو المسايرة على الاصطلاح بتسمية مدرسة البردة بالصوفية، ومدرسة النونية بالسلفية.

قصيدة البردة: أنشأها محمد بن سعيد البوصيري في القرن السابع للهجرة بعدد أبيات ناهز 160 بيتا.

في البردة تجد الاهتمام بذات النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته ومعجزاته تحنوها عاطفة حب جميلة ومشاعر أخاذة تسلب الألباب وأتم لها الذيوع الذي أفردها واحدة العصور، وبلغ الأمر بأناس أن يقدسوها ويدعوها "المباركة" ويقرؤونها وردا أسبوعيا كما الأذكار.

ولا عجب أن قام كثيرون بمعارضتها، منهم أمير الشعراء أحمد شوقي، ولقد وقعت مرة على كتاب كبير يحوي عشرات القصائد المنسوجة على نهج البردة.

بدأت القصيدة بالغزل وشكوى الغرام على عادة شعراء الجاهلية، ثم انتقلت إلى التحذير من هوى النفوس والأمر بمخالفة حبائل الشيطان، والأمر بلزوم الطاعة والاستقامة، ثم انتقلت إلى مدح النبي صلى الله عليه وسلم وذكر مناقبه وزهده مع العظمة وحاجة الناس إليه، وموضعه من الخلق سيدا على الأكوان والإنس والجان وسائر الأنبياء.

ثم الحديث عن مولده، وتهدم إيوان كسرى وهتاف الجن له، ثم معجزاته صلى الله عليه وسلم مثل حديثه مع الشجر، والقمر المنشق، وكم أبرأ باللمس من مرض.

تحدثت الأبيات بعدها عن القرآن الكريم وفضله، وحادثة الإسراء والمعراج بالأبيات المشهور
سريت من حرم ليلا إلى حرم كما سرى البدر في داج من الظلم.

ثم ينتقل الشاعر إلى الحديث عن جهاده صلى الله عليه وسلم وصفات الصحابة ورجولتهم ، وأخيرا يتعلق البوصيري بالنبي متوسلا قبل أن يختم قصيدته بالدعاء والمناجاة وعرض الحال.

تمثل قصيدة البردة منهج المعتدلين من مذهب الصوفية أحسن تمثيل، من الاهتمام بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وإطرائه حدا يخرج عن الاعتدال كروايتهم أن الله خلق الأكوان لأجله، والنبي صلى الله عليه وسلم يستحق كل إطراء، إلا أنه نهى عن هذا بنفسه حماية للعقيدة من انحراف قد يقع
ومن ملامح مذاهب الصوفية أيضا التركيز على حادثة الإسراء والمعراج، والمعجزات، والتساهل في رواية الأحاديث التي تصب في اهتماماتهم، مثل قصة الحمامة والعنكبوت على غار ثور، والتوسل بذات النبي، أو بذوات الصحابة، والتركيز على فكرة الشفاعة.

أما نونية القحطاني فهي قصيدة أنشأها الإمام عبد الله بن محمد القحطاني الأندلسي المالكي في القرن الرابع في أبيات بلغ تعدادها نحوا من 690 بيتا بقافية النون قبل قصيدة البوصيري بحوالي ثلاثة قرون، وأشار لها ابن تيمية.

ويبرز فيها مذهب السلفية واضحا في التركيز على العقيدة والعلم الشرعي ومحاربة البدع، ثم التدقيق في صحة الأحاديث وحسن النقل.

والقصيدة طويلة تحكي فصولا منوعة من علوم الشرع، ففيها الاستغفار والتوبة، والإيمان بالله: بألوهيته وعبوديته وصفاته، مع التوسع في الأقوال في الصفات والأفعال ومذاهب الخلق فيها في زمانه بين مرجئة ومعطلة وجهمية ومثبته، وانتصار لرأي والتشنيع على غيره، وفي القصيدة حديث عن الفلسفة اليونانية، ومذهب المعتزلة، والشيعة الرافضة، كما تحوي موجزات في علوم القرآن والحديث والتفسير وفروع الفقه في الوضوء والصلاة والزكاة والصيام والحج والمواريث وأحكام الزواج والطلاق... إلخ.

وفيها أيضا الحديث في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ومناقب أزواجه وسيرته عليه الصلاة والسلام وجهاده مع أكابر الصحابة مع ذكر صفاتهم وطبقاتهم وبخاصة الراشدين الأربعة، كما يذكر فيها الجنة والنار وأهوال القيامة والحشر والبعث والنشور وما أعد الله للمتقين من نعيم.

وعيوب القصيدة تمثل مذهب السلفيين، في الشدة على الخصوم، والقسوة في الخطاب، وكان هذا واضحا في هجومه الطويل الحاد على الأشاعرة ونعتهم بأقذع الألفاظ مخالفا بذلك الهدي النبوي ووصل في الختام إلى تكفيرهم، مما أضر بذيوع القصيدة بين طبقات كثيرة في العالم الإسلامي
ولأن الكاتب أقحم نفسة في قضايا العلوم الطبيعة من فلك وطب وطقس فقد كثرت في القصيدة الأخطاء العلمية مثل الإصرار على أن الأرض مسطحة لا كروية، والتشنيع على القائلين أن الأمطار تأتي من السحب عبر دورة المياه وأن البرق ناتج عن احتكاك السحب، إضافة لحديث طويل عن التداوي والاستطباب بما لم يرد في كتاب أو سنة.

آخر القول أن الكمال لله، وأي إنتاج بشري عرضة للنقص، وتدارس أخطاء الأولين ينبه عن أخطاء ربما يقع فيها الحاضرون، وفي النهاية نقول.

كم ترك الأول للآخر

ونسأل الله التوفيق والسداد

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

بين عقيدة الإسلام و”عقيدة الواقعية

للإسلام تفسيرٌ للواقع وتعاملٌ معه بناءً على علم الله به ومشيئته فيه، كما يثبتهما الوحي. …