جلسة إيمانية يوم 28 رمضان
الجهاد (حقيقته وفضله وصوره)
لقد عظم الإسلام من شأن فريضة الجهاد وحذر من تركه أو الفرار منه أو التجاوز فيه.
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {35}" (المائدة: 5 ).
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "ما تركَ قومٌ الجِهادَ؛ إلَّا عمَّهُمُ اللهُ بالعَذابِ" (حسنه الألباني).
بالجهاد تحتفظ الأمة بعزتها، ويعلوا شأنها، ويزداد شرفها ومجدها، وتظل مُهابة الجانب عالية القدر مسموعة الكلمة مرفوعة الرأس.
وإذا عطلت الأمة فريضة الجهاد زال عزها، ودُنس شرفها وحُطت كرامتها، واستهان بقدرها الأعداء فلا تُسمع لها كلمة، ولا يُهاب لها قدر، ولا ترفع لها راية.
إن أول من عرف قيمة فريضة الجهاد هم أعداء الأمة ولذلك عملوا على إطفاء جذوته وتعطيل وسائله كما عملوا على إيجاد جيل مُشوه الفكر، وهِن العزم، مُنعدم الإرادة، سلبي التفكير، مُنهزم الروح، مُنعدم الانتماء، مستسلم في كل الأمور.
ولكن شاءت إرادة الله تعالى أن يبعث في كل جيل من يُجدد شبابه، ويشحذ همته، ويصقل عزيمته، ويقوي انتمائه.
جيل لا يستسلم ولا يُفرط ولا يتنازل ولا يرضى بالدنية من نفسه ولا من دينه ولا من وطنه.
حقائق ثابتة
إن المقصد الأساسي للإسلام هو السلم وتوفر البيئة السليمة التي يسودها العدل والحرية حيث يتمكن فيها المسلم من أن يُمارس شعائر دينه دون اضطهاد أو منع.
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {208}" (البقرة: 208).
وإنما شرع الجهاد للدفاع عن النفس، وللأخذ على يد الظالم -مهما كانت عقيدته- الذي يحول بين الناس وبين ممارسة دين الله تعالى والدعوة إليه، كما أنه شرع أيضاً لنصرة المظلوم. وكل ذلك وفق ما جاء به الشرع الحنيف دون تعد أو تجاوز ودون خنوع أو تهاون.
عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: "كان رسول الله ﷺ إذا بعث أميراً على جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسملين خيراً فقال اغزوا بسم الله وفي سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله؛ اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا" (رواه الترمذي).
ومن هذا الطرح نجد أن الإسلام لم يجعل اختلاف الدين مُبرراً شرعياً للقتال، فالجهاد في الإسلام هو قتال الظالم مُسلماً كان أو كافراً، والمجاهد يقاتل الظالم لظلمه، لا لعقيدته أو مذهبه.
إن الجهاد في الإسلام وسيلة وليس غاية، واضطراراً وليس اختياراً، وإعلاماً وإعلاناً وليس تآمراً وخيانة.
إن المسلم لا يسعى إلى الجهاد تعنتاً وتهوراً، ولا يهرب منه جبناً وتنكراً، ولكنه يدور مع الإسلام وأوامره وضوابطه في هذا الشأن حيث دار.
إن الجهاد يكون فرض عين على المسلم إذا حضر الصف، أو إذا حُوصرت بلدته، أو إذا تم تكليفه لمهمة لا يجيدها إلا هو، أو إذا استنفر الإمام عموم رعيته.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "قِيامُ ساعةٍ في الصَّفِّ للقتالِ في سبيلِ اللهِ خيرٌ من قيامِ سِتِّينِ سَنَةً" (صححه الألباني).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "مَوقِفُ ساعةٍ في سَبيلِ اللهِ خَيرٌ من قِيامِ لَيلَةِ القَدْرِ عند الحَجَرِ الأسْوَدِ" (صححه الألباني).
إن صور الجهاد في الإسلام كثيرة تبدأ من ساحة المعركة وتمر بكلمة حق (عند سلطان جائر، وكلمة الحق قد تكون مكتوبة أو مسموعة أو مرئية أو مباشرة في وجهه، ولا تنتهي صور الجهاد طالما أن هناك مسلم مهموماً بدينه ودعوته.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "جاهِدوا المشرِكينَ بأموالِكُم، وأيديكُم، وألسنَتِكُم" (رواه النسائي).
حقاً، يا له من فضل عظيم! هناك من غفل عنه، وهناك من فرَّط فيه، وهناك من حُرِم منه، وهناك من انشغل عنه، وهناك قلة قليلة من صادقي الإيمان رضي الله عنهم وجعلهم شوكة في ظهر أعداء الله تعالى يدافعون عن دينه ويزودون عن حياضه ويستعذبون في سبيل ذلك كل ألم ويضحون بكل غال ونفيس، فاللهم اجعلنا منهم.
اللهم أعد لأمتنا عزها ومجدها واجعل اللهم دائرة السوء على كل من خانها وكل من أرادها بسوء.
********************************************
جلسة إيمانية يوم 29 رمضان
عبر وأسرار من دعاء سيد الاستغفار
إن الاستغفار بالنسبة للمسلم تنقية للنفس، وصفاء للروح، وراحة للقلب، وغفران للذنب، وقربة للرب سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} {آل عمران:135].
وعن عبدالله بن بسر وعائشة وأبي الدرداء رضي الله عنهم أن النبي ﷺ قال: "طوبى لِمَنْ وجدَ في صحيفتِهِ استغفارًا كثيرًا" (صحيح الجامع).
إن صيغ الاستغفار كثيرة ومتعددة، والحكمة من كثرتها وتعددها هي أن تناسب كل ذنب، وكل غاية، وأن تناسب حال كل مُستغفر.
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله ﷺ: "عَلِّمْنِي دُعَاءً أدْعُو به في صَلَاتِي، قالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، ولَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ، فَاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً مِن عِندِكَ، وارْحَمْنِي، إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ" (صحيح البخاري).
قال الإمام علي رضي الله عنه: (العجبُ ممنْ يَهْلَكُ وَمَعَهُ النَّجاةُ، قيل: وما هي؟ قال الاستغفارُ)، وكان رضي الله عنه يقول: (ما أَلْهَمَ الله سبحانه وتعالى عَبْداً الاستغفارَ، وهو يُرِيدُ أن يُعَذِّبَهُ).
عِبَر وأسرار من دعاء "سيِّد الاستغفار"
إن ذروة سنام صِيْغ الاستغفار، والجامع لمعاني التوبة كلها هو ما سمَّاه النبي ﷺ بـ "سيد الاستغفار".
ومعنى سيد الاستغفار: أي أنه يسُود كل صيغ الاستغفار الأخرى ويتقدم عليها في الفضل والدرجة.
عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "سَيِّدُ الِاسْتِغْفارِ أنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إلَهَ إلّا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وأنا عَبْدُكَ، وأنا على عَهْدِكَ ووَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بكَ مِن شَرِّ ما صَنَعْتُ، أبُوءُ لكَ بنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وأَبُوءُ لكَ بذَنْبِي فاغْفِرْ لِي، فإنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلّا أنْتَ قالَ: ومَن قالَها مِنَ النَّهارِ مُوقِنًا بها، فَماتَ مِن يَومِهِ قَبْلَ أنْ يُمْسِيَ، فَهو مِن أهْلِ الجَنَّةِ، ومَن قالَها مِنَ اللَّيْلِ وهو مُوقِنٌ بها، فَماتَ قَبْلَ أنْ يُصْبِحَ، فَهو مِن أهْلِ الجَنَّةِ" (صحيح البخاري).
إن من الأسرار التي أودعها الله تعالى في سيد الاستغفار:-
1- الإقرار بالألوهية، وذلك في قول العبد "اللَّهُمَّ".
2- الإقرار بالربوبية، وذلك في قول العبد " أنْتَ رَبِّي".
3- الإقرار بالتوحيد المُطلق، وذلك في قول العبد " لا إلَهَ إلّا أنْتَ".
4- الإقرار بأن الله تعالى هو الخالق وهو وحده المستحق للعبودية، وذلك في قول العبد "خَلَقْتَنِي وأنا عَبْدُكَ".
5- الإقرار بالخضوع التام والوفاء المُطلق، وذلك في قول العبد "وأنا على عَهْدِكَ ووَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ".
- ومن تمامِ الوفاء، الالتزامُ بالعهد الَّذِي أخذه الله تعالى على عباده وهو الالتزامِ بالتوحيدِ وبالشرعِ أمرًا ونهيًا.
- والتصديق بكل ما أخبر الله تعالى به وبكل ما وعد به من ثواب وعقاب، وبعث ونشور، وجنة ونار.
- والاعتراف بالتقصير، والإقرار بالضعف والافتقار إلى عون الله وتوفيقه.
6- الإقرار بالذنب وإظهار الخضوع والمسكنة بين يدي الله تعالى، وطلب الدخول في كنفه والتحصن بحصنه، وذلك في قول العبد "أعُوذُ بكَ مِن شَرِّ ما صَنَعْتُ".
7- الاعتراف بأن الله تعالى وحده هو من يُسْدِي النِّعم، وذلك في قول العبد "أبُوءُ لكَ بنِعْمَتِكَ عَلَيَّ".
- إن من تمام العبودية أن يعترف العبد بين يدي ربه بأنه لم يفعل الذنب جحوداً للنعم، ولكن لغلبة الهوى وضعف النفس.
8- الاعتراف بالذنب وطلب المغفرة، وذلك في قول العبد "وأَبُوءُ لكَ بذَنْبِي فاغْفِرْ لِي".
- إن من تمام العبودية الاعتراف بين يدي القدير بالتقصير، وطلب المغفرة من الغفور.
- والاعتراف بأن الخير من الله وحده، وأن الشر لا يكون إلا من العبد لغفلته وتقصيره، لذلك قال "بذنبي".
9- الإقرار بأنَّه لا يَغفِر الذنوب إلا الله لِكَمالِ مُلكِه، وواسع رحمته، وذلك في قول العبد "فإنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلّا أنْتَ".
10- بعد كل ذلك اشترط النبي ﷺ أن يكون كل ما سبق بيقين تام وإخلاص لا تشوبه شائبة، حينها يتم القبول، وتغفر الذنوب، ويتم الرضا، وتفتح الأبواب، ويكون المُستغفر من أهل الجنة.
وأخيراً أقول
إن المُوفق هو من يُوفقه الله تعالى فيجأر بسيد الاستغفار بين يدي الغفار آناء الليل وأطراف النهار، مُتحرياً أوقات الإجابة ومُحققاً لأسباب القبول.
***********************************************
جلسة إيمانية يوم 30 رمضان
الويل والثبور لمن استسلم للفتور
إن الفتور آفة تصيب النفس فيشعر صاحبها بقسوة في القلب، وضيق في الصدر، ووهن في الإرادة، واستسلام للكسل، وعزوف عن العبادة كلها أو بعضها.
قال تعالى: " وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ {19} يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ {20} " (سورة الأنبياء).
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الإيمانَ لَيَخْلَقُ في جَوْفِ أحدِكُمْ كَما يَخلَقُ الثّوبُ، فاسْألُوا اللهَ تعالَى: أنْ يُجَدِّدَ الإيمانَ في قُلوبِكمْ" (صحيح الجامع).
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنَّ لهذه القلوب إقبالًا وإدبارًا. فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإن أدبرت فألزموها الفرائض".
إن الفتور هو أحد شِباك الشيطان التي يحاول بها أن يُكبل المؤمن السائر بعزم على طريق ربه لكي يفت من عزمه ويقيِّد خطواته حتى تخور قواه فيستسلم لحبائل الشيطان ويقع فريسة سهلة يخوض في وحل الشهوات والمنكرات ظناً منه أنها ستكون فترة قصيرة ويُعاود بعدها السير إلى ربه، فلا يجد نفسه إلا راكباً سفينة تمخر به في بحر لُجي من الذنوب والشهوات والتنازلات التي تراكمت بعضها فوق بعض، وقد فقد القدرة على التوقف وكذلك القدرة على العودة، ولم يعد أمامه سوى خيار واحد ألا وهو أن يخوض هذا الغِمار حتى النهاية وهو لا يدري أنه بحر بلا قاع ولا شُطآن.
بعض أسباب الفتور
هنا سنذكر بعض أسباب الفتور مع عدم إغفال أن الجوانب الشخصية لا تتشابه وأن السلوك البشري ليس فيه مُسَلَّمَات ولا فيه ما هو متفق عليه، وكل حالة تقدَّر بقدرها.
1- ضعف الإيمان والركون إلى الدنيا والانغماس في مُلهياتها وملذاتها وضعف الشعور بالمسؤولية الفردية ولا الجماعية.
2- الشعور بالانهزامية أمام موجة الظلم والفساد العاتية وأن الفساد قد ضرب بجذوره في الأرض ومن الصعب اقتلاعه.
3- ضيق الأفق وإيثار السلامة الذي يترتب عليه النمطية والرتابة في الأعمال دون وجود لرؤية واضحة (من أنا ؟ وماذا أريد؟).
4- الميل إلى النقد والجدل وتضخيم الهفوات وإلقاء اللوم على الآخرين هروباً من المسئولية.
5- مخالطة النماذج السيئة من المرجفين والمثبطين وأصحاب الأهواء.
6- الإفراط في دراسة الواقع وتحليلاته دون أن يترتب على ذلك عمل.
عاقبة الفتور على صاحبه وعلى المُحيطين به
• صاحب هذه الآفة يفوته من الخير الكثير والكثير دينياً ودنيوياً، فهو يتخلف عن الركب فيسبقه أقرانه ومن هم أقل منه في كل شيء وفي كل مَغنم.
• وصاحب هذه الآفة بفتوره هذا يُظهر المسلمين بصورة لا تليق بهم ويُغري السُّفهاء بالإسلام والمسلمين كما هو حالنا اليوم.
• وصاحب هذه الآفة إن لم يبادر بالتوبة والأوبة يُختم له بسوء الخاتمة والعياذ بالله.
• والأخطر والأنكى أن صاحب هذه الآفة يسُن سُنة سيئة لمن يقتدي به فيحمل من أوزارهم على أوزاره، نسأل الله تعالى العفو والعافية.
نصيحة
- إن صاحب آفة الفتور كثيراً ما ينظر إلى من هم دونه ليقنع نفسه أنه مازال على خير وقلما ينظر إلى من هم فوقه حتى لا يعض بنان الندم تأسفاً على ما فاته، والعكس هو المطلوب!.
- إن الفطن والمُوفق هو الذي يعرف مداخل الشيطان فيحترز منها ولا يستسلم لها وهو من يُعِد لهذه النكبات عُدتها من الإيمان والهمة والعزيمة حتى إذا أتته أصابها قبل أن تصيبه واندحر الشيطان مُولياً لأنه قد اقترب من حِمى عبد بربه مُتحصناً وعليه مُتوكلاً وإليه مُنيباً.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وخذ بأيدينا إليك أخذ الكرام عليك