قنطرة الزاهدين “حلالُها حسابٌ وحرامُها عذابٌ”

الرئيسية » خواطر تربوية » قنطرة الزاهدين “حلالُها حسابٌ وحرامُها عذابٌ”
df64585e-00-slice-of-life-building-on-a-mothers-wisdom-696x445

إن الدنيا ليست لعاقل وطناً، ولا ينتظر منها عاقل نفعاً، ولا يندم على ما فاته منها بعد عمله وسعيه، لأنه يعلم أن ما عند الله خير وأبقى.

قال تعالى: "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ {32}" (الأنعام: 32).

وقال تعالى: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ {20}" (الحديد: 20).

عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "لو كانت الدُّنيا تعدِلُ عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقَى كافرًا منها شرْبةَ ماءٍ" (السلسلة الصحيحة).

يقول الإمام الشافعي رحمه الله
إن لله عبــاداً فطنــــــاً *** تركوا الدنيا وخافوا الفتنـا
نظروا فيها فلمـا علموا *** أنهـا ليسـت لحـي وطنــاً
جعلوهـا لُجـة واتخــذوا *** صـالـح الأعمال فيها سُفناً

إن من يرى تهافت الناس على الدنيا وتكالبهم على حطامها وغفلتهم عن مآلهم ومنقلبهم يعلم أن هذا استدراج من الله وغضب، ويعلم أن آخرة هؤلاء لن تخلو من الندم وتأنيب الضمير وشماتة الشامين، ثم يلي كل ذلك عذاباً لا ينفك عن صاحبه ولا يستطيع صرفه عن نفسه.

قال تعالى: "فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ" (الأنعام: ٤٤).

حقيقة الدنيا في عيون العارفين

جاء في (تزكية النفوس).. "عندما سُئل أبو صفوان الرعيني: ما هي الدنيا التي ذمها الله في القرآن، والتي ينبغي للعاقل أن يتجنبها؟ فقال: كل ما أحببت في الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ما أحببت منها تريد به الآخرة فليس منها".

قال علي بن الفضيل: "سمعت أبي يقول لابن المبارك: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع، كيف ذا؟ قال: يا أبا علي، إنما أفعل ذلك لأصون وجهي، وأكرم عِرضي، وأستعين به على طاعة ربي، قال: يا ابن المبارك.. ما أحسن هذا إن تم هذا".

وقال شداد بن عمرو: "إن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر، وإن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، وإن السامع المطيع لا حجة عليه، وإن السامع العاصي لا حجة له، ولا تعدوا هذه الدنيا شيئًا فإنها لا تبقي على أحد، ولا ترفضوها مع ذلك فإن الآخرة لا تنال إلا بها".

وقال بلال بن سعد في (السِّير): "يا أهل التقى، إنكم لم تخلقوا للفناء، وإنما تنقلون من دار إلى دار، كما نقلتم من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى القبور، ومن القبور إلى الموقف، ومن الموقف إلى الخلود في جنة أو نار".

وقال ابن السماك في (شذرات الذهب): "من جرعته الدنيا حلاوتها لميله إليها، جرعته الآخرة مرارتها لتجافيه عنها".

وجاء في (صفة الصفوة).. قالت امرأة حبيب بن محمد: كان يقول: "إن مت اليوم فأرسلي إلى فلان يغسلني، وافعلي كذا واصنعي كذا، فقيل لامرأته: أرأى رؤيا؟ قالت: هذا قوله كل يوم".

جاء في (جامع العلوم والحكم).. " كتب بعض السلف إلى أخ له: يا أخي: يُخيل إليك أنك مقيم، بل أنت دائب السير، تساق مع ذلك سوقًاً حثيثًاً، الموت متوجه إليك، والدنيا تطوى من ورائك. وما مضى من عمرك فليس بكار عليك يوم التغابن".

وقال إبراهيم الأشعث: "سمعت الفضيل يقول: رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله وزهادته في الدنيا على قدر رغبته في الآخرة، من عمل بما علم استغنى عما لا يعلم، ومن عمل بما علم وفَّقه الله لما لا يعلم، ومن ساء خلقه شان دينه وحسبه ومروءته".

وقال يحيى بن معاذ: "يا ابن آدم.. طلبت الدنيا طلب من لا بد له منها، وطلبت الآخرة طلب من لا حاجة له إليها، والدنيا قد كُفِيتها وإن لم تطلبها، والآخرة بالطلب منك تنالها .. فاعقل شأنك".

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما أحد أصبح في الدنيا إلا وهو ضيف، وماله عارية، والضيف مرتحل، والعارية مردودة".

وجاء في (حلية الأولياء) أن مسروق بن الأجدع أخذ بيد ابن أخ له فارتقى به على كناسة بالكوفة فقال: ألا أريك الدنيا، هذه الدنيا، أكلوها فأفنوها، لبسوها فأبلوها، ركبوها فأنضوها، سفكوا فيها دماءهم، واستحلوا فيها محارمهم، وقطعوا فيها أرحامهم.

وجاء في (تسلية أهل المصائب) أن بعض السلف قال: "احذروا دار الدنيا، فإنها أسحر من هاروت وماروت، فإنهما يفرقان بين المرء وزوجه، والدنيا تفرق بين العبد وربه".

يقول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ويل لمن كانت الدنيا أمله والخطايا عمله، عظيم بطنته، قليل فطنته، عالم بأمر دنياه، جاهل بأمر آخرته".

وعندما رأى أبو حازم انشغال الناس بالدنيا، قال: "لوددت أن أحدكم يتقي على دينه، كما يتقي على نعله".

وكتب الإمام الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد: فإن الدنيا: دار ظعن، وليست بدار إقامة، وإنما أنزل آدم إليها عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها والغنى منها فقرها، لها في كل حين قتيل، تذل من أعزّها، وتفقر من جمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه...".

وجاء في كتاب (جامع العلوم والحكم).. "قال بعض الحكماء: كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته".

وجاء في مدارج السالكين: "قال مالك بن دينار: خرج أهل الدنيا من الدنيا، ولم يذوقوا أطيب شيء فيها. قيل: وما هو؟ قال: معرفة الله تعالى".

وقال رجل لسفيان الثوري: أوصني؟ قال: اعمل للدنيا بقدر بقائك فيها، وللآخرة بقدر بقائك فيها، والسلام.

يقول الإمام الشافعي:
"أشد الأعمال ثلاثة: الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يُرجى ويُخاف".

وجاء في كتاب تنبيه الغافلين.. "قال الحكيم: أربعة طلبناها فأخطأنا طرقها: طلبنا الغنى في المال؛ فإذا هو في القناعة، وطلبنا الراحة في الكثرة؛ فإذا هي في القلة، وطلبنا الكرامة في الخلق، فإذا هي في التقوى، وطلبنا النعمة في الطعام واللباس، فإذا هي في الستر والإسلام".

وجاء في كتاب (مكاشفة القلوب).. "ذكر عن شفيق البلخي أنه قال: الناس يقولون ثلاثة أقوال وقد تألفوها في أعمالهم: يقولون: نحن عبيد الله وهم يعملون عمل الأحرار، وهذا خلاف قولهم، ويقولون: إن الله كفيل بأرزاقنا، ولا تطمئن قلوبهم إلا بالدنيا وجمع حطامها، وهذا أيضًا خلاف قولهم، ويقولون: لا بد لنا من الموت وهم يعملون أعمال من لا يموت، وهذا أيضًا خلاف قولهم".

وقال إبراهيم التيمي: مثلت نفسي في الجنة، آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار، آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحًا، قال: قلت: فأنت في الأمنية فاعملي.

وجاء في (غذاء الألباب) للسفاريني:
هـي القنـاعةُ لا تـرضَى بهــا بـدلاً فيهــا النعيــمُ وفيهـــا راحــةُ البـدنِ
انظـرْ لمـن ملَــك الدُّنيـا بأجمـعِـها هـل راح منها بغيــر القطـن والكفـن

وصية جامعة لأبي ذرى الغفاري رضي الله عنه

قام أبو ذر الغفاري رضي الله عنه عند الكعبة فقال: "يا أيها الناس أنا جندب الغفاري، هلموا إلى الأخ الناصح الشفيق، فاكتنفه الناس، فقال: أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفرًا أليس يتخذ من الزاد ما يُصلحه ويبلغه؟ قالوا: بلى، قال: فإن سفر طريق يوم القيامة أبعد ما تريدون، فخذوا ما يُصلحكم، قالوا: وما يُصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يومًا شديدًا حره لطول النشور، وصلوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور، كلمة خير تقولها أو كلمة شر تسكت عنها لوقوف يوم عظيم، تصدق بمالك لعلك تنجو من عسيرها، اجعل الدنيا مجلسين، مجلسًا في طلب الحلال، ومجلسًا في طلب الآخرة، الثالث: يضرك ولا ينفعك لا ترده. اجعل المال درهمين: درهمًا تنفقه على عيالك من حله، ودرهما تقدمه لآخرتك".

أخيراً أقول
إن من ينظر لحال قدوتنا وحبيبنا ﷺ يجد أنه كان يرى الدنيا بحجمها الطبيعي الصحيح دون إفراط ولا تفريط.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "ما لي وللدُّنيا ما أنا في الدُّنيا إلا كراكِبٍ استظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَ راحَ وترَكَها" (الجامع الصغير).

إن الفهم الصحيح يٌوجب علينا أن نتعامل مع الدنيا على أنها قنطرة للآخرة، وهذ الفهم لخَّصه يحيى بن معاذ رضي الله عنه بقوله: "كيف لا أحب دنيا، قدِّر لي فيها قوت، أكتسب به حياة، أدرك بها طاعة.. أنال بها الجنة".

كما قال أيضاً: "لست آمركم بترك الدنيا، آمركم بترك الذنوب، ترك الدنيا فضيلة، وترك الذنوب فريضة، وأنتم إلى إقامة الفريضة أحوج منكم إلى الحسنات والفضائل".

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …