خلال الأيام القليلة الماضية؛ قدم مرابطو القدس وحي الشيخ جراح ومن ورائهم مقاومو غزة العزة ومنتفضو الداخل الفلسطيني ومن تحرك في الضفة المغتالة بأيدي التنسيق الأمني مع المحتل، وكذلك أصداء فعالهم التي انعكست – ابتداء – في أردن الحشد والرباط، ثم تعالت موجاته التسونامية لتكمل فيما بقي من دول الطوق المجاورة (لبنان – مصر)، ثم تمر بعدها في بعض دول الخليج لتصل الباكستان شرقا وأقصى الغرب في مراكش!
دروس عظيمة يجب على كل داعية وحراكي وساعٍ لتغيير واقع الأمة (فرداً كان أو جماعة أو حزبا) أن يغترف من معينها الكثير، ليساعده ذلك في إكمال مسيرته وحركته الإصلاحية والاجتماعية والدعوية والسياسية ليقترب أكثر من "تحرير الأمة من ربقة فاسديها ومحتليها" (ليكون الدين كله لله)، منها...
1. علمتني الحياة في ظل "سيف القدس" أنه لا يفل الحديد إلا الحديد، ولا يردع المحتل الغاصب إلا أن تكشّر عن أنيابك، ولن يقف عن غيّه لأمانيك وصرخات ألمك ، وإن لم تكن تملك قوة توازي بها –على الأقل– ردعه فلن يرحمك!
وهذا ما ظهر جليا في كل مفاصل هذه الجولة، فلو سكت المقدسيون لعاثت قطعان المستوطنين فسادا في المسجد الأقصى، ولو لم يطلق رجال المقاومة صواريخهم لما رضخ نتنياهو أمام هذه الحقيقة، وهذا يدفعنا للبحث عن مكامن قوتنا "الداخلية" ومفاصل آلام خصومنا "الخارجية" لغايات الضغط عليها وعدم الرضوخ لأفعالهم {إن الله لا يصلح عمل المفسدين}.
لو سكت المقدسيون لعاثت قطعان المستوطنين فسادا في المسجد الأقصى، ولو لم يطلق رجال المقاومة صواريخهم لما رضخ نتنياهو أمام هذه الحقيقة
2. علمتني الحياة في ظل "سيف القدس" أن العبرة في الإقدام لا الإحجام، وفي الحركة لا السكون، وفي الفعل لا بردة الفعل ، {ادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون}، وعدم الجلوس لانتظار الفرصة المناسبة فقط، بل السعي نحو صناعتها بشكل أوضح، فلو جلس المقدسيون مترددين في دفاعهم عن الأقصى لاحتله المستوطنون، ولو تأخر مقاومو غزة وأبقوا على حالة التوعد خلف الجدران لما توقف نتنياهو عن غيه، وهذا يدفعنا أيضا إلى التفكير الجاد في رسم آفاق جديدة للعمل، وعدم الرضوخ للمعادلات التي قد يفرضها الفاعل السياسي – أيا كان –، فما زالت القوى الحية في الأمة قادرة على اقتحام ساحات جديدة (سياسية – اقتصادية – نقابية – اجتماعية – إعلامية –...) لا يتوقعها الفاسدون، ولكن الأمر يحتاج لعقل إبداعي وقلب شجاع وتكتيكات سريعة {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين}.
3. علمتني الحياة في ظل "سيف القدس" أن الإعداد الجيد للمعركة هو شطر النصر والتمكين، وأن فترات التهدئة السابقة لم تكن للنوم بل لمراكمة القوة ، وتطبيق عملي للأمر الرباني {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل}، ومن خلاله تتحقق موازين الردع مع العدو{ترهبون به عدو الله وعدوكم} بل وسيربك حسابات من خلفه {وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم}.
ولقد أبدعت المقاومة في هذا الشأن، وحين سنحت لها الفرصة: وجدناها أضاءت سماءهم بـ(الرشقات الصاروخية المتنوعة) ثم بــ (وابلها على اختلاف القوى التدميرية والمسافات) ثم ظهر (العيّاش) و(أبابيل الزواري) و(غواصات الفداء)، مما يفرض علينا – معاشر أهل الإصلاح والتغيير – إلى إعادة النظر في كل ملفات الإعداد والتدريب الداخلية لمعاركنا السلمية (الدينية – الدعوية – السياسية – الاقتصادية – الاجتماعية – الإعلامية – النقابية – الإغاثية – التنموية –...)، ويدفعنا إلى نفض الغبار عن الكثير من برامجنا التطويرية وجعلها حيّز التنفيذ لغايات الإنجاز القريب، فكما سنحت لنا الأقدار فرصة في فترة الربيع العربي – لم نكن قد استعددنا لها بشكل كاف – فقد تسنح لنا فرصة أخرى قريبة تتهاوى بها أنظمة الفساد وعروش الطغيان، فهل نحن جاهزون؟؟؟
4. علمتني الحياة في ظل "سيف القدس" أن النصر مع الصبر، وأن قوة عدوك هي بالون أو فقاعة يمكن أن تتجاوزها ، {ولا تهنوا في ابتغاء القوم: إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا ترجون}، فليس قدرنا أن نتألم لوحدنا، ولكن "قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار"، ومهما شعرنا بآلام المقاومة فإن وراءها نصر من الله أو شهادة في سبيله، {فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، إن يمسسكم قرحٌ فقد مسّ القوم قرحٌ مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس}.
ليس قدرنا أن نتألم لوحدنا، ولكن "قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار"، ومهما شعرنا بآلام المقاومة فإن وراءها نصر من الله أو شهادة في سبيله
وهذا ما ظهر جليا في الحاضنة المجتمعية للمرابطين في القدس أو المقاومين في غزة، فلم تتفكك البنى الاجتماعية الحاضنة لهم بل على العكس زادت توطدا والتئاما.
فوجدنا الأم التي تحمد الله على شهادة أولادها في غزة.
ووجدنا العجوز الذي يصرخ في وجه قوات الشرطة على أسوار القدس.
ووجدنا الغني الذي فقد كل ماله في هجوم الصهاينة على برجه السكني في غزة فيحمد الله ويسترجع.
وسمعنا الطفلة التي تقول "لن نخضع لأعدائنا حتى لو قتلونا".
بل وجدنا العائلات التي تقف مع أبنائها في اللد والرملة وصفد وأم الفحم.
وهذا يدل على أهمية إعداد الشعوب للمعارك الفاصلة، وفرز الدعاة والعلماء العاملين والإعلاميين والفنانين والمؤثرين القادرين على تعديل المزاج العام وتأطير رأيه في اتجاه عزة الأمة لا انتكاستها، وأي تقصير في هذا الجانب سيجلب علينا الويلات.
5. علمتني الحياة في ظل "سيف القدس" أن معركة الوعي لا تقل عن معارك الرصاص، بل قد تتجاوزها أحيانا وتوجع في العدو كثيرا، فما شهدناه من انحياز غير مبرر لكبرى مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك ويوتيوب) وتحجيمها للمحتوى المقاوم من الانتشار عبر إغلاق العديد من الصفحات وتعطيل الكثير من حسابات الناشطين وتقييد الوصول لكثير من المنشورات الداعمة للقضية، يدل بشكل صارخ على أن التفاعل كان في أوجه، وأن أثره في الانتشار بين الناس كان ظاهرا، على عكس ما كان يظن المحبطون.
بل إن مدى التعاطف – أو قل التضامن – عالميا مع المعركة – وأصحاب القضية – كان مميزا، وحقق بعضا من {ليسوءوا وجوهكم} التي وجهنا لها القرآن الكريم، وبالمقابل أصبح من غير الممكن السكوت على هذا الانحياز (الإلكتروني) للكيان الصهيوني، ووجب على الناشطين وضع إجراءات تأديبية صارمة عبر حملات من الإغلاقات وتقليل التقييمات وغيرها من الاجراءات الإبداعية لإرغام هذه المواقع على احترام محتوانا المقاوم.
6. علمتني الحياة في ظل "سيف القدس" أنه مهما كان العمل الجماعي موفقا فإنه لا يمنع من بصمات فردية متميزة ، منطلقة من هم وهمة متوقدة، مكللة بالحافزية الفردية العالية، مغموسة بالمشاريع الشخصية الإبداعية، فلا يليق بمن رأى إبداعات الشهيد مهندس الطيران محمد الزواري – من تونس – إلا أن يرفع قبعته إكراما لهذا المسؤولية الفردية – عن نعمة العلم والتعلم – التي نقلها لإخوانه ليملّك المقاومة سلاحا استراتيجيا – وهو الطائرات بلا طيار – لم تحلم به يوما ما!
وما قام به الشهيد جمعة الطحلة – من الأردن – في ضبط الأمن السيبراني للمقاومة شيء أيضا استثنائي.
بل انظر معي إلى الشهيد البروفيسور في الهندسة الميكانيكية جمال الزبدة الذي أبى أن ينال درجات الدنيا وزخرفها في جامعات العالم وبقي أستاذا جامعيا في – غزة – نهارا ومرابطا في محادد العز والفخار ليلا ليسلّم المقاومة مشاريع الصواريخ والغواصات، وغيرها مما لم يكشف بعد.
مما يدفعنا – معاشر أهل الدعوة والإصلاح – إلى تربية الشباب على ضرورة تملّك المشاريع الاستثنائية والسعي نحو معاليها، فعلى سبيل المثال – أطباء المسلمين والعاملين في الحقل الصحي مدعوين – مع أزمة كورونا وغيرها من الأزمات الصحية – إلى تملّك الإرادة والعلوم والمهارات الكافية لإيجاد العلاج المناسب، وليس فقط الوقوف متفرجين على السباق العالمي المحموم في البحث عن المطاعيم المناسبة.
بل إن متخصصي علم الحاسوب أيضا – على اختلاف دراساتهم – مدعوين الآن – أكثر من السابق – إلى برمجة مواقع تواصل جديدة تكسر احتكارية (فيسبوك ويوتيوب) وانحيازها الالكتروني للصهاينة.
بل أيضا طلبة الإعلام وناشطيهم هم أيضا مدعوون إلى البحث عن خطاب ووسائل تأثير في الجمهور العام يدفع باتجاه مشروع الأمة التحرري (ليكون الدين كله لله)، وكل متخصص في أي مجال وجب عليه أن يحدد المشروع الذي سينفع به الأمة ويلقى به وجه الله تعالى.
7. علمتني الحياة في ظل "سيف القدس" أن لا نيأس من الجيل القادم، مهما ظهر عليه من ثقافة السخافة والضياع التي تحاول وسائل التواصل الاجتماعي ترسيخها به ، فهو جيل – إذا تم إعادة بنائه فكريا وإيمانيا – قادر على أن يقلب الموازين أسرع مما نتخيل، فشباب القدس الذي نحتفل برباطهم اليوم لم نكن نشهدهم قبل 10 سنوات، فمن أين جاءوا؟؟؟
ألم يتعرضوا – مع إخوانهم من شباب اللد والرملة وعكا والجليل وعسقلان وبئر السبع – لحملات تغريب وصهينة مستمرة لغسل أدمغتهم؟؟؟ ألم نكن نسميهم "عرب إسرائيل"؟؟؟ فما الذي جرى؟؟؟ ما الذي غيرهم؟؟؟
أهي صيحات الشيخ "رائد صلاح" وصبره في محبسه، أم مقلوبة الرباط مع المرابطة "خديجة خويص"، أم (لايفات) وتحديات المرابطة "هنادي الحلواني"، أم هي دروس "الدكتور بسام جرار"، أم هي ملاك ذلك كله وما خفي أعظم؟؟؟
لذا نحن مدعوون بكل طاقتنا إلى إعادة الاتصال مع هذا الجيل الذي كسر حصار الصهاينة على باب العامود وأعاده طاهرا مع بداية رمضان المبارك، وأمثاله في أوطاننا لعله يكون هو صاحب التغيير المنشود.
8. علمتني الحياة في ظل "سيف القدس" أن الحصار المفروض على غزة العزة من كل دول الطوق حولها، وشح التبرعات العينية والنقدية التي تصلهم، ومنع أي سلاح يمكن أن يتوفر من الخارج، لم يمنعهم من تطوير عملهم وأسلحتهم ليفاجئوا العالم كله بقدرات ضخمة وعملاقة لا تتسنى لغيرهم ممن قد تسمح لهم الفرص، وهذا يدلل على أن صناعة الإنسان هي أولى من أي الصناعات، فهو الذي يستطيع أن يفعل المستحيل ، فلا يليق بالحركات والمنظمات أن تشكو قلة حيلتها ما دام نموذج المقاومة بارز أمامنا، وعليها أن تجد المساحات لكسر جمودها واستعادة ريادتها مرة أخرى، في كل المجالات، فمن كان حراكها مدنيا ضد قوى الاستبداد: وجب عليها أن تكسر طوقها وتزيد من اشتباكاتها المدنية (سياسيا – اقتصاديا – اجتماعيا – تعليميا – نقابيا – دعويا –...)، ومن كان حراكها عسكريا ضد قوى الاحتلال: فعليها أن تتعلم كثيرا من المقاومة الفلسطينية.
لا يليق بالحركات والمنظمات أن تشكو قلة حيلتها ما دام نموذج المقاومة بارز أمامنا، وعليها أن تجد المساحات لكسر جمودها واستعادة ريادتها مرة أخرى، في كل المجالات
9. علمتني الحياة في ظل "سيف القدس" أن تعظيم نقاط الالتقاء مع رفقاء السلاح كان أولى من البحث عن الدعايات الفارغة ، فما فعلته كتائب عزالدين القسام من تشكيل الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة والانطلاق من خلالها، بل العمل على تقوية تلك الفصائل ودعمها بالمال والسلاح والخبرات لكي تظهر قوية أمام العدو لهو أمر في قمة الإخلاص للقضية، وعلى كل القوى العاملة في الإطار المدني ضد قوى الاستبداد أن تغلب النقاط والمصالح المشتركة في نضالها السياسي، وأن تبتعد – كل البعد – عن الأنانية السياسية التي قد تودي بمشاريعها النضالية إلى الهاوية، وما جرى بين القوى الإسلامية والمدنية في مصر الحبيبة 2013م – من فصام نكد سمح لأصحاب النفوس المريضة أن تستثمره في غرس – إسفين – بينها وصل إلى الانقلاب على الرئيس الشهيد محمد مرسي وقتل إخوانه في رابعة أمام مرأى القوى المدنية ومسمع، ظنا منها أنها ستحكم مصر بعدها ليأتيها السيسي بجيشه ليربض على صدورهم ويبدد ثروات مصر ومقدراتها ويهلك الحرث والنسل – ليس عنا ببعيد، ولقد استفادت القوى المدنية في تركيا من المشهد فمنعت الانقلاب، فهل نحن تعلمنا من ذلك؟؟؟
على كل القوى العاملة في الإطار المدني ضد قوى الاستبداد أن تغلب النقاط والمصالح المشتركة في نضالها السياسي، وأن تبتعد – كل البعد – عن الأنانية السياسية التي قد تودي بمشاريعها النضالية إلى الهاوية
10. علمتني الحياة في ظل "سيف القدس" أنه مهما اختلفت الأمة فيما بينها، حكومات أو شعوب، فإن دينها هو الوحيد القادر على تجميعها مرة أخرى ، ومقدساتها هي القادرة على استعادة همتها في الحركة والنشاط والحيوية، وأنه مهما حاولت الأنظمة العميلة أن تعقد اتفاقيات الذل والعار والتطبيع مع الكيان الصهيوني فإن الشعوب ما زالت تعرف ربها، وتدرك حقها، وتسعى نحو حريتها، وهذا ما ظهر جليا في فلسطين – كل فلسطين – من خلال توحدها، أطفالا وشيوخا وشبابا، نساء ورجالا، في القدس والداخل الفلسطيني والضفة الغربية وقطاع غزة، وكل جماهير الأمة، توحدت في شهر رمضان المبارك لحماية مسرى نبيها الكريم وحي الشيخ جراح، ثم وقفت كلها مع مشروع المقاومة الذي أوقف غطرسة الصهاينة وتجبرهم في البلاد والعباد، وهذا يدعوننا أيضا إلى التركيز على خطابنا الدينية وتنويع أساليبها ليمس أحوال الناس ومعاشهم، ولكي يكون مصدر عزة وفخار لهم على هذه المعمورة.
11. علمتني الحياة في ظل "سيف القدس" أن معية الله عز وجل دائما هي للمؤمنين الصادقين، {ليجزي الله الصادقين بصدقهم، ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم}، ولن يدع الله أحدا استعان به إلا أعانه، واعتصم به إلا عصمه، وجاهد فيه إلا نصره، واعتز به إلا أعزه ، {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، وما ظهرت قوة عدوك وسطوته فهو لن يكون أعز على الله منك، {فاستمسك بالذي أوحي إليك، إنك على صراط مستقيم، وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون، وسئل من أرسلنا قبل من رسلنا: أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون}.
فلنكن مع الله – أفرادا وجماعات ومجتمعات وأمة –، فبمعيته ننتصر على شهواتنا ونزيح ما يطرأ على عقول أفرادنا من شبهات، وبعونه وتوفيقه تخط جماعاتنا مسارات متميزة في إطار دعوتنا الإصلاحية في أوطاننا، وبترتيبه تستقيم حياتنا وعلى منهجه تسلم مجتمعاتنا، وبإرادته تعود العزة والمنعة لأمتنا.
12. علمتني الحياة في ظل "سيف القدس" أن لرمضان طعم آخر في ظل الجهاد والمقاومة، والعيد فيه عيدان: عيد إكمال عدته صياما، وعيد نصر الله فيه تحققا وإصرارا، {ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}.