يخطئ من يظن أن المجازر التي ارتكبها الاحتلال الصهيوني في قطاع غزة؛ ستثني المقاومين والمجاهدين عن مواصلة السير في طريقهم، فهم حينما جعلوا متاع الدنيا وراء ظهورهم، وقرروا سلوك هذه الطريق؛ ما فعلوا ذلك إلا عندما أيقنوا أنها طريق ليست معبّدة ممهدة، ولا مفروشة بالزهور والرياحين.. وأدركوا غاية الإدراك أن الجنّة غالية الثمن.. قرأوا ذلك في كتاب الله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}..
الطغاة والمحتلون يفرحون بمشهد الدماء والأشلاء، وينتشون برؤية الرصاص وهو يخترق أجساد الأطفال الرقيقة، ويُسرّون بالنيران وهي تحرق الأجسام المتوضئة الطاهرة.. ولكنهم لو علموا شعور المؤمن حين البلاء؛ لنغّص عليهم ذلك عيشهم، وأفسد فرحتهم.
مساكين! ما علموا أن المؤمن يستقبل البلاء بابتسامة يتهلل بها وجهه، وينشرح لها صدره؛ لأنه يعلم أن الله تعالى ما أراد به إلا الخير.. فقد سمع حبيبه صلى الله عليه وسلم يقول - في الحديث الذي رواه الإمام مسلم -: "عجباً لأمر المؤمن؛ إنّ أمره كلَّه خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن.. إنْ أصابته سرّاءُ شكر؛ فكان خيراً له. وإنْ أصابته ضراءُ صبر؛ فكان خيراً له".
إنه على صلة دائمة بالله تعالى.. لا يخشى بطش الطغاة والمحتلين، ولا تثني عزيمته سجونهم، ولا ترهبه رصاصاتهم وقنابلهم وطائراتهم، ولا يخدعه علوّهم في الأرض ولا جبروتهم، فهو مطمئنٌّ بالله القدير، موقنٌ بأن النصر عاقبة المؤمنين، وأن دماءه التي يُسيلها لله؛ ستساهم في بناء صرح التوحيد لأمة متعطشة إلى العيش في أفياء الشريعة الإلهية.
يتلو قول الله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الذين خلَوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراءُ وزُلزلوا حتى يقولَ الرسولُ والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}.. فيقول: من أنا أمام النبي وأصحابه؟ أتصيبهم البأساءُ والضراءُ ولا تصيبني؟ أيُصيبهم زلزال القتل والتشريد وفقدان الأحبة، ولا يصيبني؟ أتتطاير أمام أعينهم الأشلاء، وتسيل الدماء، وتشق السيوفُ أجساد أحبّتهم تحت سمعهم وبصرهم، حتى استبطأوا نصر الله تعالى مع ما يملكون من إيمان ويقين.. وأنا في مأمن من هذا كلّه؟!
تتردد هذه الأسئلة في حناياه، وتدفع عنه كل محاولة للقعود أو التردد، فيحثّ الخُطى إلى الموت كما لو أنه معشوقٌ غائب، ولسان حاله يقول: يا رب.. ذنوبي لا يكفّرها إلا الدماء.. أرجاسي لا يغسلها إلا الدماء.. أسقامي لا يشفيها إلا الدماء.. خُذ من دمي اليوم حتى ترضى..
هذه المشاعر السامية؛ لا يعرفها الساقطون في حبائل الظلم والاستبداد، ولا يدركها مَن غيض ماء الإيمان في قلوبهم.. فحُقّ لهم أن يفرحوا بمشاهد القتل والتعذيب، لأنهم يظنونه فرحاً دائماً لا يزول.. ووالله إن زواله لأقرب إلى أحدهم من شراك نعله..
إنهم في واد.. والمؤمن على قمة سامقة باسقة شاهقة.. فكيف يرون ما يرى؟ وكيف يتنسّمون ما يتنسّم؟ وماذا لو سقط من على هذه القمة شهيداً؛ فكيف يعقلون أنه يتمنى أن يسقط ليرتقي مرة تلو مرة، لما يرى من الكرامة - كما جاء في الحديث الشريف -..
إنها كرامة لا يعرفها المؤمنون، فكيف يفقه معناها الجاحدون؟..
إنها كرامة لا يعرفها سوى الشهيد..