الإسلام بين ضِيق رؤيتنا وسَعَة مُقوِّماته.. نحو رؤيةٍ جديدةٍ للمناهج والفِقه

الرئيسية » بصائر الفكر » الإسلام بين ضِيق رؤيتنا وسَعَة مُقوِّماته.. نحو رؤيةٍ جديدةٍ للمناهج والفِقه
Man wearing an Islamic prayer cap, or "Kufi", looks at Islamic books on display at a bookshop located in the western Sydney suburb of Lakemba

مِن بين أهم الأمور الغائبة للأسف عن سياقاتنا الدعوية والعلمية، في المجال الإسلامي، أو على أقل تقدير، تتراجع وتغيب لصالح أمورٍ أخرى، هي قضية فهمنا لمُقَوِّمات هذا الدين، وبالتحديد فهمنا لهذه المقومات في المجالات التطبيقية والعملية في حياتنا العادية.

فبالنَّظرِ إلى البرامج الدعوية، فإنَّه في الغالب، ما يكون التركيز على العقيدة، بما تتضمنه من أمورٍ متعلقة بالإلهيات وأركان الإيمان المعروفة؛ الكُتُب، والرُّسُلِ، والبعث واليوم الآخر، والقضاء والقدر، والملائكة، والغيبيات التي جاءت في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية، مثلما يتعلق بالجان والشيطان الرجيم، بالإضافة إلى العبادات والرقائق والأخلاق.

لكننا – باستثناء الحركات الإسلامية التي تتبنَّى رؤيةً شاملةً للدين – في الغالب العام، وبالذات لدى المدارس السلفية التقليدية والصوفية، وهي الأكثر شيوعًا في أوساط عوام المسلمين؛ فإنَّنا نكاد نقف أمام عناصر شديدة العموم، ومرتبطة بمنظومة أو اثنتين من المنظومات التي ينظمها الدين في حياتنا؛ العقيدة والعبادة، بينما المجالات التطبيقية، نجدها إما غائبةٌ، أو في إطار التأصيل النظري فحسب، من دون الغوص في سياقات الواقع وجوانبه التطبيقية التي تتغير باستمرار، وتطرأ عليها الكثير من التغيير في كل لحظةٍ بطبيعة الحياة الإنسانية.

وحتى على مستوى برامج التعليم الديني في بعض الجامعات الإسلامية الكبرى، بما فيها الأزهر الشريف؛ فإنَّنا نقف أمام حالة ربما من الغياب في تبنِّي مناهج مناظِرة لما يُعرَف في كُلِّيَّات وأكاديميات العلوم السياسية والاجتماعية، بالقضايا الدولية المعاصِرة.

وبالنظر عن قُرب لهذه النوعية مِن المواد؛ فإنَّنا نجدها تجدد باستمرار، وتتغيَّر بتغيُّر أولويات السياسة العامة على المستوى الدولي، وحتى على المستوى الداخلي في الدول التي تنتمي إليها هذه الكُلِّيَّات والأكاديميات.

ففي مطلع التسعينيات؛ ظهرت قضايا التنمية وحقوق الإنسان في بلدان الجنوب، بالإضافة إلى قضايا صراعات المياه، ثم، وفي مطلع الألفية الثالثة، وفي العِقد الثاني منها؛ بدأت مناهج القضايا الدولية المعاصرة تتناول قضايا الإرهاب والتنظيمات الجهادية، وأثرها على سلطة الدولة، والاحتجاجات الاجتماعية والحكم الرشيد، مع بعض القضايا القديمة نظرًا لكونها قضايا مستمرَّة، استجابةً للحدث القائم.

هذا المنطق العلمي أو التعليمي بمعنىً أدق؛ لا نجده في مناهج المحاضن التعليمية والتربوية الإسلامية، وحتى الحركات الإسلامية التي كانت تتبنَّى منهجًا شاملاً ترى به الدين، وسياقات حياة الإنسان والمجتمعات في إطاره؛ عرفت مناهجها مشكلة الجمود بعد بداية الألفية الثالثة، وجاء انشغالها بالعمل السياسي والحركي التنظيمي على حساب عملية تجديد المناهج.

وحتى المناهج التي تتناول قضايانا التطبيقية القريبة، فإنَّها تقف عند حدود ذكر الأحكام الشرعية العامة، من دون النظر في تفاصيل الحالات الفردية التي تمثِّل في تراكمها ومجموعها ظواهر يجب البحث عن حلٍّ لها.

فمثلاً، قضية العلاقة بين الجنسَيْن؛ نجد أنَّنا دائمًا ما نكون أمام الأحكام العامة المتعلقة بالاختلاط والزنا والعياذ بالله، وأحكام الزواج والطلاق، مِن دون أي شيءٍ يتعلق بالحالات التي تتداخل فيها الأمور والعوامل الاجتماعية والإنسانية، ولاسيما الظروف وطبائع النفس الإنسانية، وأحوال الإنسان، والتي تختلف جميعها – بالتأكيد – مِن إنسانٍ لآخر.

وهذا منهجٌ عقيمٌ في تناول قضايانا التطبيقية المهمة. فأولاً، الظاهرة الإنسانية، ظاهرةٌ معقدةٌ للغاية، تتداخل فيها، وفي صناعتها، الكثير مِن العوامل والأمور، ولا تكاد تجد جريمة سرقة أو زنا أو أي شيءٍ آخر؛ وقعت في السياق أحادي الرؤية الذي تتناوله سياقات عرض الأحكام الشرعية في إطارها المطلَق، بمعنى: "القاتل، يُقتل" و"السارق، تقطع يده"، وهكذا.

ثانيًا، هي مناهج تنطلق مِن نظرةٍ قديمةٍ للأمور والقضايا، ولا تلقي بالاً للمستجدات في دقائقها التي تتوغَّل في نظرتها حتى مستوى الحالات الشخصية المعروضة أمام الفقيه أو المفتي.

فبكلِّ تأكيدٍ؛ هناك تجديد في مجال الفقه الإسلامي، مثل فقه المعاملات المصرفية، وفقه الأقليات المسلمة، والكثير من الأبواب التي فتحتها تطورات الحضارة الإنسانية، لكنها – كذلك – تبقى مناهج ورؤى شديدة العموم في أحكامها، مِن دون إعمال الرأي والعقل في حالة فلانٍ أو فلانة بالتحديد، فيكتفي الفقيه أو المفتي بذكر الأحكام الشرعية فحسب، مِن دون إفادة فلان هذا بالتحديد، في حالته بالتحديد.

أي أنَّنا أمام مقاربة مسطَّحة لقضايا المسلمين، فلا تقدِّم مقوِّمات الإسلام كما ينبغي أنْ تكونَ، بالسَّعَة التي أرادها عليه الشارع الأعظم، والتي تحقق سُنَّة الصلاح والصلاحية للشريعة الإسلامية، التي هي المنهاج والأحكام مما ارتضاه اللهُ تعالى لنا، في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.

ولتقريب الصورة، بجانب ما أشرنا إليه سلفًا بشأن العلوم السياسية، ومناهج القضايا الدولية المعاصِرة؛ فإنَّنا بحاجةٍ إلى مناهج، وإلى مُنتَجٍ فكريٍّ، أقرب إلى ما يكون لدى القاضي في ساحات العدالة.
فالقاضي لا يحكُم فحسب بموجِب النَّص القانوني الذي أمامه، وإنما يصدِرُ حُكمَهُ بناءً على رؤيةٍ شاملةٍ للقضية المعروضة عليه، بما فيها حتى طبيعة الجاني والمجني عليه، والظروف التي تمت فيها الجريمة أو المخالَفة، وبالتالي؛ فقد يصدر حكمه على خلاف نصِّ المادة القانونية، ولا تثريب عليه في ذلك، لا شرعًا ولا عُرفًا ولا قانونًا.

في هذا الإطار، يتعامل الفقهاء – كما تقدَّم بمنظور الرؤية العامة، والحكم العام، إلا أنْ تجدَ فقيهًا مجتهِدًا، يحاول أنْ يقدم منهجًا أو منتجًا فكريًّا يتناول الأمور وفق هذه النظرة التي تدخل في تفاصيل الحالة التي أمامه، وهم قِلَّة بالمقارنة بعدد المسلمين اليوم، وبنوعية وعدد القضايا المطروحة في عالم اليوم.

ولعلَّ أكثر الفئات التي تعاني في هذا الصدد، الأقليات المسلمة، التي فيها البعض بالفعل، لا يعرف حتى الحكم الشرعي العام في الأمور الرئيسية، فهناك مسلمات في فرنسا، تزوَّجنَ بغير مسلمين، وهُنَّ لا يعلمنَ أنَّ هذا حرام في الإسلام، وإذا ما لجأت إلى فقيهٍ أو مُفتٍ؛ فإنَّها كل ما تحصل عليه هو عبارة: "هذا الزواج باطل ولا يقع، وحرام عليكِ الاستمرار فيه"، مِن دون أيَّة مساعدةٍ تعينها على تجاوز آثار هذا الخطأ.

فالذي تسأله هذه المرأة؛ لا يعنيه ولا يفكِّر في أنَّ هناك التزامات اجتماعية واقتصادية تنتظر هذه المرأة، ولا أنَّ هناك أطفالاً نشأوا عن هذه العلاقة، ولا أنَّ هناك صورًا من المعاناة تنتظرها أمام النظام القانوني للدولة التي تقيم فيها.

فلا يجدنَ – ومَن ناظرهنَّ من فئاتٍ أخرى مثل الشباب والمسلمين الجدد – أيَّ شكلٍ من أشكال الدَّعمِ أو النَّصيحة. فهناك مسلمو روسيا والمناطق الباردة في شمال أوروبا، الذين يعانون مع موضوع المشروبات الروحية التي لها ضرورة متعلقة بأوضاع مناخية، وأحوال اجتماعية معقدة، ولكنهم عندما يسألون فقيهًا أو عالِمًا؛ لا يجدون سوى عبارة: "الخمر حرام". حسنٌ. معلومٌ يا مولانا أنَّ الخمر حرام، لكن كيف نتعامل مع هذه الأوضاع والأحوال؛ هذا هو المهم، والذي يفتقده المسلمون هناك.

بينما المفتي والعالِم والفقيه في الأصل؛ ليست وظيفتهم ترديد الأحكام الشرعية فحسب؛ فهذه موجودة، وتملأ الكتب، وإنَّما مِن صميم وظيفتهم، التصدِّي للحالات الشخصية وما فيها من تعقيدات.

والمدهش أنَّنا نجده كان أمرًا حاضِرًا في القرون الأولى للإسلام ونفتقده في عالم اليوم، برغم أنَّه أكثر تعقيدًا والتباسًا في قضاياه وأحواله.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …