الإعراض والاستجابة …. في سورة الأحقاف

الرئيسية » بأقلامكم » الإعراض والاستجابة …. في سورة الأحقاف
quran-fact

منذ أن تقرأ فواتح سورة الأحقاف.... تجد عرْضا مُفحماً للحجج والبراهين التي تؤكد صفات الربوبية والألوهية لله.... فهو العزيز الحكيم الذي خلق السماوات والأرض.... ولا شريك معه فيهما... وإن كان من ادّعاء على غير ذلك فليأت المدّعون بآية أو دليل على صدق مايدّعون...

" مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ".

أولئك المدّعون المكذبون... ليطلبوا من آلهتهم المزعومة أن يستجيبوا لهم إذا دعوهم.. أو يحققوا لهم مطلبا.. بل على العكس من ذلك سيكونون أعداء لهم يوم القيامة ولن ينفعوهم بشيء... بل سيتبرّأون منهم لتنقلب عليهم عبادتهم تلك حسرة وندامة...

" وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ".

إذن هو الإعراض التي تصفه السورة بأنه مستمر ودائم منهم "وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ"...
وتفنّد السورة الأسباب التي تدعو مثل هؤلاء إلى الكفر والإعراض.. وهي أسباب قديمة لكنها متجددة في كل زمان ومكان...

إنه الحسد الذي ملأ قلوبهم على من آتاه الله الخير والهدى، وقولهم أن هذا الدين لو كان خيرا لكنا نحن أول من اتبعه ولما سبقنا إليه أحد:" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ".

وهذا الحسد حتماً سيؤدي إلى العناد والاستكبار:" فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ" وقوله تعالى " بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ".

ومرّةً يتمسكون بالموروث من الضلالات والجهالات التي أخذوها عن آبائهم وأجدادهم:" قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ".

وتارة يقولون عن هذا الحق أنه سحر:" قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ" وتارة هو افتراء:" أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا .

إنها حجج واهية ليبرروا لأنفسهم غيّها وطغيانها في الأرض بغير الحق...:" وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ".

يستمرون في ضلالتهم ولا يتعظون بما حصل لأسلافهم جزاء كفرهم وإعراضهم:" وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ".

ثم تعرض السورة مثلا لأولئك المعرضين وما حل بهم، وهم قوم عاد من أهل الأحقاف التي سميت السورة باسمهم ليكون مصيرهم عبرة لمن يعتبر: "فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ".

ويتكرر مرتين في السورة مشهد عرض الكافرين على النار يوم القيامة، ويقال لهم توبيخا وتقريعا.. " وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ".

ومرة أخرى يقرّرهم الله بالحق الذي رفضوه في الدنيا، فيعترفون عندها أنه الحق، ولكن لا ينفع وقتها الندم "وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ".

وبعد هذه الجولة من الإعراض والتكذيب، تنتقل السورة إلى صورة أخرى من الاستجابة للحق، هي صورة مشرقة لأولئك الذين آمنوا بالحق واستقاموا عليه.. لا يضرهم من خالفهم أو عارضهم..." إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " أولئك لهم البشرى يوم القيامة بتمام الأمن والفرح... فلا خوف مما هو آت ولاحزن على ما فات.....

ثم صورة أخرى لاستجابة صنف آخر من المؤمنين يشاركوننا في هذه الأرض، إنهم الجن الذين ما سمعوا روعة القرآن حتى أنصتوا وآمنوا... بل وأكثر من ذلك أن عادوا إلى قومهم منذرين يدعونهم الى الحق الذي آمنوا به وصدقوه.." وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ".

بهذه الإيجابية والخيرية ينطلق المؤمن في هذه الحياة.. لينشر الخير والنور الذي معه إلى العالمين... شعاره في ذلك كما قال الجن المؤمنون في دعوتهم: "يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ".

هذه النفوس المطمئنة التي ترجو الخير لها ولغيرها.. تسأل الله أن يوفقها على شكر نعمه.. وأن يبارك لها فيما سيأتي من بعدهم من ذريّاتهم لتمتد رسالة الخير عبر الأجيال.. وما أجمل هذه المعاني التي شملها الدعاء الوارد في سورة الأحقاف والذي يلزمه المسلم في كبر سنه ليجدد العزم على الاستقامة على هذا الدين: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ".

أولئك المستجيبون للحق... الحاملون لرايته عبر الزمان والمكان... والعاملون به...صدقوا مع الله فصدقهم الله وعده.... يبشرهم ربهم بأحسن جزاء وخير ثواب... "أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ".

ويأتي خير ختام للسورة... يقول لك... إن أردت هذا الثواب وهذا المصير... فاصبر على هذا الطريق الذي سلكه من سبق من الأنبياء والمرسلين... وثق بالله ولا تستعجل النتائج... فالهلاك والخسران للفاسقين المعرضين..." فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ".

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

بين عقيدة الإسلام و”عقيدة الواقعية

للإسلام تفسيرٌ للواقع وتعاملٌ معه بناءً على علم الله به ومشيئته فيه، كما يثبتهما الوحي. …