كثيرا ما يتحدث علماء الأخلاق والتربية عن ضرورة تعهد الإنسان نفسه ومن يعول وضبطهم بالأخلاق والآداب العامة، مستعينين تارة بما ملأ القرآن الكريم من قيم وأخلاق عليا أو بمواقف من سير الأنبياء والصالحين تارة أخرى، أو حتى بسير بعض الأولياء "الأسطورية"، مغفلين -أو متغافلين إلى حد ما- ضرورة تحقيق التوازن بين تحقيق الحاجات الإنسانية وضبط شهواتها، حتى غدا خطاب بعضهم يؤول إلى كبت ما خلق الله في أنفسنا من إقبال على الحياة واللهو والمرح فيها بدعوى التزهد، ومبتعدين عن المنهج الرباني {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77].
هذا الخطاب وأمثاله لا يراعي حقيقة وجود "حاجات إنسانية" يجب على الإنسان أن يلبيها لتصلح حياته الدنيوية وينطلق بعدها لتحقيق غاية وجوده في الأرض، وإدراك هذه الحقيقة لا يتعارض البتة مع المنهج التربوي السليم، المضبوط بالبوصلة القرآنية {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:32]، وبالتالي وجب على الدعاة والمصلحين ومثقفي الأمة إعادة ترتيب هذا الملف الذي عاث فيه بعض الوعاظ -سذاجة منهم وقلة علم- فنشروا بين يدي الناس مفهوم التزهد بشكل خاطئ، حتى قال أحدهم -وهو يتحدث عن السباق المعرفي الذي يخوضه المسلمون مع العالم هذه الأيام- (ما لهذا خلقنا !!!) مشيرا إلى أننا خلقنا للعبادة -بمفهوم التشريعي فقط- وهو -أي المتحدث- يلبس مما لا ننسج، ويركب ركوبة مما لا نصنع، ويخرج على الشاشات التي لم ننتج، فأي المناهج هذه؟؟؟
في حين أن الشهوات (والشَهْوَة - بالمفهوم اللغوي - هي قوةٌ نفسيةٌ تؤدي إلى رغبةٍ شديدةٍ لشيء ما أو ظرفٍ يُرضي الشعور، بينما يكون الشخص يمتلك بالفعل شيئًا هامًا آخر أو كميةً من شيءٍ مطلوب) مذمومة في النص القرآني على اعتبار أن فيها تعد على أوامر الله أو حقوق عباده، ودعي الإنسان إلى لجمها وضبطها بمراقبة الله تعالى في السر والعلن، وصدق الله حين قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
ومما هو حري بنا معاشر أهل الإيمان أن ننظر إلى مختلف الدراسات العلمية التي سطرها الإنسان بهذا الأمر، ومنها ما وضعه عالم النفس ماسلو من "هرم الحاجات الانسانية" كنموذج علمي وتفسيري ضمن دراساته المعمقة للسلوك الإنساني وأهم احتياجاته وتنوعها، أشار فيه إلى أن "عدم إشباع هذه الحاجات سيؤدي إلى ظهور جوعها على شكل تصرفات إنسانية غير سوية، ومن خلال معرفة وإدراك هذه الحاجات يستطيع الانسان أن يتنبأ بسلوك الآخرين (أفرادا وجماعات ومجتمعات)".
وقسم ماسلو هذا الهرم من القاعدة إلى القمة (حسب أهمية هذه الاحتياجات لأكبر شريحة ممكنة من الناس) إلى خمس درجات:
الدرجة الأولى "الحاجات الفسيولوجية": وهي الحاجات التي لا يستطيع الإنسان الانفكاك عن طلبها أو الحاجة لها، وبها تستقيم حياته وتستمر، مثل الطعام والشراب وقضاء الشهوة الجنسية والنوم والتنفس والاتزان العام.
الدرجة الثانية "حاجات الشعور بالأمان": وتحل هذه الحاجات في المستوى الثاني، وهنا تبرز أهمية الشعور بالأمان الجسدي أو حب التملك أو الاستقرار الوظيفي أو المهني وغيرها.
الدرجة الثالثة "الحاجات الاجتماعية": وهنا تكمن أهمية بناء العلاقات الإنسانية المتعددة من الزواج والنسب والمصاهرة والأعمام والأخوال، وكذلك الاصدقاء والمعارف والجيران زملاء العمل، والقدرة على فهم الأدوار الاجتماعية المختلفة للإنسان الواحد والتماهي معها.
وهذه الدرجات "كما يسميها بعض العلماء" = الحاجات الأرضية، لارتباطها بالمكونات الأرضية لهذا المخلوق الفريد، ويشترك بها كل الناس (على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وألوانهم وأديانهم).
أما الدرجة الرابعة "الحاجة إلى التقدير": من خلالها يبدأ الإنسان يرسم صورته الإنسانية الحقيقية عبر منجزاته المختلفة، فيشعر بالثقة الذاتية وضروة البحث عن ما يجبر الأخرين على احترامه له (كالدرجات العلمية أو المناصب الوظيفية)، ويسعى نحو تحقيق منجزات مادية ومعنوية تغذي لديه حاجة التقدير عند الناس.
وأعلى الهرم هو "الرضا الذاتي أو الحاجة إلى تحقيق الذات": وهذه الدرجة تعد الأصعب والأندر في التحقيق أو حتى السعي نحوها، وتظهر هذه الدرجة بين المبدعين والمخترعين (على اختلاف مجالاتهم) وكذلك بين القادة الاجتماعيين والمؤثرين وأصحاب المشاريع النهضوية (أو التخريبية أيضا)، ويسعى الإنسان من خلالها حل مشاكل الآخرين أو ابتكار منتجات أو أفكار جديدة.
والدرجتين الأخيرتين هما (كما يسميهما بعض العلماء): الدرجات السماوية، لارتباط مساعيهما في المجال النفسي والروحي، والذي لا يتغذى إلا بالإيمان (الإيمان بالخالق - الإيمان بالذات - الإيمان بالدور والمسؤولية - الإيمان بالإمكان وعدم العجز - الإيمان بالمآل والمصير).
وصدق الله حين قال {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ۖ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء].
وشعور الإنسان بالكرامة الوجودية له هو شرط الإيمان، فالله كرم الإنسان ورفع مقامه بين الخلق (العقل والتكليف) ليعرف حق الله عليه.