شهدت مساحات التواصل الاجتماعي والإعلام الفضائي في الآونة الأخيرة، الكثير من النقاشات حول قضايا الزواج والطلاق في مجتمعاتنا العربية والمسلمة.
وتركَّزت هذه النقاشات على القضايا المتعلقة بالنواحي المادية، المالية على نحوٍ أكثر دِقَّةً، سواء لجهة الارتباط الشرطي الذي وضعته بعض الأوساط بين حقِّ الزوج في القوامة، وبين قيامه بواجباته المالية على الزوجة، أو لجهة المغالاة في المهور وتكاليف الزواج، وما يتصل بهذه القضية بالذات، فيما يتعلق بجدلٍ ذي خصوصيةٍ بالمجتمع المصري، بشأن ما يُعرَف بـ"قائمة الأثاث"، أو "القايمة" في الثقافة الدارجة في مصر.
وفي الواقع، فإنَّ هناك ارتباطٌ عضويٌّ آخر بين القضيتَيْن؛ القوامة والقائمة، في الخطاب العام للخطِّ النسويِّ، أو في الخطاب العام المجتمعي، بجانب الجذر المادي المالي.
وهذا الرابط العضوي، يخص مشكلة قديمة وموضوعية بالفعل، تتعلق بسلطة الرجل على المرأة، سواء أكان أبًا وابنته، أو زوجًا وزوجته، أو غير ذلك من حالاتٍ يكون للذَّكَرِ فيها سلطةٌ أخلاقية أو شرعية أو أُسَرِيَّة على الفتاة أو المرأة.
ولكن قبل التطرُّق إلى بعض الأمور التي تطرحها هذه النقاشات؛ نشير إلى أنَّ المقصود بـ"قائمة الأثاث"، أو "القايمة" – لأنَّها غير معروفة لدى كثيرٍ من المجتمعات العربية – عبارة عن وثيقة يوقِّع عليها الزوج قبل الزواج، تكون متضمَّنَةً المنقولات الخشبية والأجهزة المنزلية والمنقولات العينية الأخرى التي تم تأثيث شقة الزوجية بها، ويكون الزوج مُلزَمًا في حال حدوث الطلاق بتسليم محتوى القائمة إلى الزوجة أو مَن ينوب عنها من أهلها.
والنقطة المهمة في هذه القضية، وفي غيرها، هي كيفية التوظيف. سواء توظيف القوامة، أو فرضها، أو كيفية توظيف "قائمة الأثاث".
فالأصل؛ أنَّ كلا الأمرَيْن لا مشكلة فيه؛ حيث إنَّه بالبداهة في موضوع رفع سقف المَهْر أو مُقَدَّم الصَّدَاق، وفي كتابة "قائمة الأثاث" مثلاً (في مصر يعتبرها البعض ضمن المَهْر أو مُقَدَّم الصَّدَاق)، أنْ يكون في ظلِّ تعقيد ظروف الحياة، ومَيْل الناس إلى إخفاء مكنونات نفوسهم، والتظاهُر بما هم ليسوا عليه؛ أنْ يسعى الأب أو الأخ الأكبر إلى ضمان حقوق الابنة أو الأخت عند زواجها، إذا ما حدث الطلاق، وضمان جدِّيَّة المتقدِّم للزواج بالفتاة أو المرأة.
والقرآن الكريم – أصل التشريع الإسلامي – لم يحدد سقفًا للمهور، والأصل، احترام حقوق الزوجة، ففي سُورَة "النِّساء"، يقول اللهُ تعالى: "وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)".
هكذا الأمور ببساطةٍ، ومن جماليات هذا الدين؛ المرونة بموجب الظرف الزماني والمكاني، فالرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، دعا إلى تيسير اشتراطات الزواج المالية، وقال بوضوح: "إذا خَطَبَ إليكم مَن ترضون دينَهُ وخُلُقَه فزَوجوِّه إلَّا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ عريض" [أخرجه الترمذي، وقال حديثٌ حسنٌ].
وكان عليه الصلاة والسلام، يزوِّج الناس بخاتمٍ من حديدٍ أو بما يحفظون من القرآن الكريم.
وهذا – بالمناسبة – يكسر منطق عقيم لدى الجماعات المتطرفة الضالة، التي تقف عند ظاهر النَّصِّ، مما قادها إلى تكفير عموم المسلمين، فالرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، هو أعلم الناس بشريعة رَبِّه، وأكثرهم طاعةً لها، ولكنَّه وجدَ في مجتمع شبه الجزيرة العربية الكثير من الأمور التي يجب معها الدعوة إلى تيسير شروط الزواج.
فهو هنا لم يُخالِف – حاشا ذلك عليه الصلاة والسلام – الأمر الإلهي، وإنما يعلم ما كتبنا عنه مِرارًا، من أنَّ الأحكام الشرعية والأوامر القرآنية، إنَّما تطبيقها رهينٌ بقيودٍ وضوابط وضعها الشارع الأعظم أيضًا الذي وضع هذه الأحكام، وأنَّ التطبيق رهينٌ بتوافر ظروفٍ وأحوالٍ؛ متى انتفت؛ فلا تطبيق للحكم الشرعي، بينما لا يعني ذلك رفض الحكم أو الاعتراض عليه.
وفي الإطار، فإنَّ القرآن الكريم حافلٌ بالآيات التي تُرَغِّب في الزواج، وحُسن المعاشرة الزوجية، وتخرج برابطة الزواج المقدسة عن نطاق تقنين الرغبة الجسدية والتناسُل، إلى آفاق نفسية وأدوارٍ اجتماعية عظيمة، ترتقي بكرامة وقيمة الإنسان، وتخرج به عن النَّسق الحيواني الشهواني.
والعِشرة بالمعروف، أمرٌ قرآنيٌّ، وعدم المساس بحقوق الزوجة، أمرٌ قرآنيٌّ كذلك.
وذات الأمر في قضية القوامة. فالنَّصُّ القرآني واضحٌ وصريحٌ. يقول تعالى: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ" [سُورَة "النِّسَاء" – مِن الآية (34)].
فببساطةٍ؛ فإنَّه وفق المنطق الحاكم للإطار التطبيقي للأحكام الشرعية؛ إذا ما انتفى شرطٌ من الشَّرطَيْن المذكورَيْن في الآية؛ الأفضلية بصورها المختلفة؛ البدنية والنفسية، والإنفاق، أو كلاهما؛ فلا قوامة للزوج؛ حيث إنَّ المرأة في الإسلام بالتأكيد غير مُطالَبَةٍ بالموت جوعًا أو بأيدي لصوص، إذا ما عجز الزوج عن الإنفاق عليها أو حمايتها لضعفٍ أو إعاقةٍ بدنيةٍ مثلاً.
في مسألة "قائمة الأثاث"، فإنَّ الأمرَ في الأصل؛ أنَّه لا مساس بحقوق الزوجة، في حياةِ عَين الحياة الزوجية، أو في حال الطلاق، ومِن المحرَّم على الرجل إعضالُها نكايةً فيها، أو أذيَّتُها، أو أخذِ أيِّ شيءٍ منها بغير وجهِ حقٍّ.
في سُورَة "البَقَرَة"، يقول تعالى: "وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)".
وفي سُورَة "النساء"، يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)".
حتى الطلاق الشفوي الذي يتم في حالِ عدم وجودِ شهودٍ عليه؛ حذَّر اللهُ تعالى منه. يقول تعالى في سُورَة "البَقَرَة": "وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)".
ومن بين إجراءات الشريعة الإسلامية في تقنين الطلاق وضبط المسائل المرتبطة به، وتضمن حقوق المرأة قبل الرجل – ردًّا على غُلاة التيارات النسوية – قوله تعالى في سُورَة "البَقَرَة" أيضًا: "الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)".
لكن تبدُّل ظروف الدنيا، ونفوق الناس، وتعقُّد الحياة الاجتماعية والمشكلات الاقتصادية، في مقابل طغيان الرغبة على العقل عند الكثيرين – مع أنَّ الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" دعا إلى الصَّومِ في حال عدم القدرة على الزواج – دفع بعض الشباب إلى التلاعب والتحايُل للزواج، بمنطق قضاء الشهوة، وبعد ذلك فليحدُثُ ما يحدث.
وفي حالاتٍ كثيرةٍ، ظُلِمَت النساء المُطلَّقات، وبالتالي؛ بدأ نمطٌ من الآباء في أخذ جانب الحذر قبل الزواج، ببعض الإجراءات، ومن بينها موضوع "قائمة الأثاث" هذا.
لكن الكثير من الآباء، مالوا إلى الشطط والمخالفات الشرعية في هذه النقطة؛ فتحوَّلت "قائمة الأثاث" من أداةٍ لضمان حقوق الزوجة، إلى عقد إذعان للزوج، وباتت وسيلةً لنهب حقوقه وأمواله، والتهديد بها لإرساله إلى السَّجن، حتى لو كانت الزوجة هي المخطئة.
وبطبيعة الحال؛ هذا حرامٌ، والأصل في الحياة الزوجية، أنْ تُبنَى على المودَّة والرحمة، وألا تُبنَى على تَربُص أيٍّ من أطرافها بالآخر، بما في ذلك أهل الزوج والزوجة، وإلا فشلت، وباتت الحياة عبارةٍ عن أيامٍ وسنواتٍ تعيسةٍ، أو يحدث الطلاق، وهو أمرٌ غير محمودٍ حتى لو كان مباحًا، وفي النهاية؛ يدفع الأطفال ثمن ذلك كُلِّه، وتنشأ أجيالٌ تعاني الأمراض النفسية ومشكلات التفكك الأُسَرِي وما إلى ذلك.
بل إنَّ البعض حوَّل ذلك؛ "قائمة الأثاث" ومؤخَّر الصَّدَاق، إلى تجارة من جانب البعض؛ حيث تقوم بعض النساء أو ذويهنَّ بتزوجيها، واستكتاب الزوج للكثير من الأوراق التي تلزمه بالكثير أيضًا من التكاليف حال حدوث الطلاق، ثم تعمد الزوجة إلى تكفير العشير، حتى يطلقها الزوج مُرغَمًا، فتحصل منه على الكثير مِن الأموال بغيرِ وجه حقٍّ، ثم يتكرر ذلك في زيجةٍ أخرى، وهكذا.
هذا كله حرامٌ، وملعونٌ مَن يقوم به، ويوم القيامة يأتي بمال كسب منه، زوجٌ أو زوجةٌ مما أخذ من حقوق الآخر، وقد عُذِّبَ به.
والأَوْلى بأولياء الأمور، التدقيق، وكفالة حقوق الابنة بما يرضي اللهَ تعالى، والأولى بشباب الأمة، أنْ يفهموا أكثر حقيقة الحياة الزوجية، وأنَّها مسؤوليةٌ والتزامٌ وأدوارٌ؛ لا مجرَّد وسيلةٍ لقضاء رغبةٍ، وتنتهي بنهاية إرَبِ الزوج في الزوجة.
المهم، مغزى هذا كُلَّه، أنَّ الشريعة الإسلامية بعيدةٌ تمامًا في عنصر المسؤولية عن كل المشكلات الحاصلة، ولا تُسألُ عنها، وإنما المشكلة كاملةً، تكمُنُ في سلوكيات الناس، واستغلال بعضهم للشريعة الإسلامية، لتحقيق مآرب لا تقرُّها الشريعة مِن الأصل.
بل على العكس؛ في هذه الآيات، وفي غيرها، وفي الأحاديث النبوية الشريفة وسُنَّة الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"؛ نقف أمام تحريم حقيقي لما تدَّعيه بعض الأوساط النسوية والعلمانية عن الإسلام في هذه القضايا وغيرها.
وفي الأخير؛ نؤكِّد أنَّ ما يُنسبُ إلى الشريعة وأحكامها في هذه القضية، وفي غيرها، إنَّما هو إمَّا سوء تفسير وفهم، أو سوء نِيَّةٍ، أو عرفٌ سائدٌ يتم دسُّه على الشريعة، وهذه مشكلةٌ كبيرةٌ في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ولا نجدها في مجتمعات المسلمين في المناطق الأخرى من العالم.