وانتصرت طالبان انتصارا كبيرا على القوات الأمريكية المحتلة منذ عام 2001م. لكن.....ربما يتساءل المتسائلون: لماذا ينتصر الأفغان دوما على كل محتل أجنبي، في حين أن الفلسطينيين _ مثلا _ لم يستطيعوا أن ينتصروا على عدوهم الصهيوني المحتل منذ أكثر من سبعين عاما، بل إن احتلاله يقوى ويثبت يوما بعد يوم؟!
هل هناك فرق في البأس بين الأفغانيين والفلسطينيين، أم أن هناك فرقا في الإخلاص والتجرد بين المجاهدين هنا وهناك؟
الإجابة بكل بساطة هي: ليس هناك فارق لا في البأس ولا في الإخلاص، ولكنّ الذي أحدث الفارق هو الجغرافيا!
فالجغرافيا الجبلية الأفغانية تعطي مأوىً للمجاهدين، مُنطلقا لكرّهم ومُختبئا لفرّهم، فلا تستطيع أي قوة مهما بلغت أن تتغلب عليه لا بطائراتها ولا بصواريخها فضلا عن آلياتها ومنشاتها.
الطبيعة هي التي ساعدت وتساعد الأفغان في كل حرب على الانتصار على غازيهم المحتل.
الطبيعة هي التي ساعدت وتساعد الأفغان في كل حرب على الانتصار على غازيهم المحتل
والطبيعة بغاباتها الكثيفة_ كذلك _ هي التي ساعدت الفيتناميين على الانتصار على الأمريكي المحتل في حرب فيتنام.
وهي التي ساعدت الجزائريين في الانتصار على المحتل الفرنسي، وإذاقته الويل طول سنين عدة، في نفس الوقت الذي كان الاحتلال الإنجليزي يسرح في ربوع مصر وكأنه في نزهة، فلا مقاومة تُذكر، في ظل جغرافيا مصرية عديمة الجبال والغابات.
الجغرافيا لها دور كبير جدا في انتصار الأفغان، وأظن أن قوى العالم كله باتت تدرك أن أفغانستان لن تُحتل مرة أخرى، فقد حباها الله جغرافيا تدافع عنها قبل أن يدافع عنها مجاهدوها ومقاوموها.
ولكنّ ذلك لا ينفي مطلقا إثبات البأس والشجاعة والإقدام للمجاهدين الأفغان على مدار تاريخهم، وهم أهل حرب وجهاد. وغرضنا هنا أن نؤكد على أن ذلك وحده لم يكن سبب انتصارهم، بل كانت الجغرافيا سببا كبيرا.
بل إن الأحاديث التي وردت عن أهل البيت المقدس وأكنافه، لتؤكد على أنهم خِيرة أهل الله في أرضه، وهم أكثر أهل الأرض ثباتا على الحق، ولن يضرهم من خذلهم إلى يوم القيامة.
لكنهم، تعوزهم الجغرافيا (الجبال والغابات) كملاذات جهادية تستعصي على العدو اقتحاما وتدميرا.
ومن ناحية أخرى: فإن الاحتلالين الروسي والأمريكي للأفغان لم يكونا احتلالين بخلفية عقائدية كما هو الاحتلال الصهيوني لفلسطين، والاحتلال بخلفية عقائدية هو الاحتلال الأشد والأنكى والأكثر جبروتا واستماتة من العدو المحتل.
وكذلك لم يكن احتلال الروس والأمريكان لأفغانستان احتلالَ استيطانٍ دائم، لا وجود لهما إلا به.
أما احتلال الصهاينة لفلسطين فهو احتلالُ استيطانٍ لا وجود لـ(إسرائيل) إلا به. ومن هنا فلن تجد دولةً في الأرض تدافع عن احتلالها ومستعدة لدفع أغلى الأثمان من أجل بقائه مثل دولة الاحتلال الصهيوني، لأن بقاء احتلالها هو بقاؤها هي، فليس لها وجودٌ غيره، ففلسطين هي أرضها الموعودة المزعومة، لا أرض لها غيرها ولا وطن لها غيره.
واحتلال الصهاينة لفلسطين هو الاحتلال الذي أجمع العالم كله على دعمه، إرضاء لليهود المتحكمين في عالم اليوم، وتآمرا على العرب والمسلمين بزرع ذلك الكيان السرطاني في قلبه.
أما الاحتلال الأمريكي أو الروسي من قبله للأفعان، فهو احتلال فرديٌ مصلحيٌ، تختلف عليه الأطراف الدولية، بل وتتعادى وتتحارب من أجله، ولولا المعونة الأمريكية بواسطة أذنابها من الأنظمة العربية للمجاهدين الأفغان لما استطاعوا دحر المحتل الروسي من قبل، ولولا المعونة الروسية لهم لما استطاعوا دحر المحتل الأمريكي اليوم.
لكن: تبدو هناك ملاحظة لا بد أن يتنبّه لها المجاهدون الأفغان، حتى لا تُسكرهم نشوة الانتصار عن تبيّن الصورة كاملة.
انسحاب أمريكا بهذه الطريقة السينمائية انسحابٌ مخيف مقلق، والمستمع لحديث الرئيس الأمريكي عن انسحاب الأمريكان يجد تلميحا بل وتصريحا منه بالهزيمة الكبرى للأمريكان، وبالقوة الكبيرة للمجاهدين. وغريب جدا أن يكون حديث الأمريكان عن هزيمتهم وعن بأس عدوهم بهذا السفور والوضوح.
أمريكا حيّة حِربائية، تغير شكلها ولونها كل حين، وتبقى لتلدغ دائما وتتحين للدغتها الفرص.
وما كانت أمريكا لتخرج من أفغانستان بهذه الطريقة السينمائية، التي تُسرع فيها خطى الانسحاب، وتطلب من عدوها تأمين انسحابها وعدم الإجهاز عليها أثنائه، إلا لمخطط كبير ترسمه.
أفغانستان في موقع استراتيجي بالنسبة لعدويّ أمريكا الكبيرين، روسيا والصين.
وبالتالي فلن تترك أمريكا أفغانستان بدون إبقاءِ قواعدَ عسكرية أمريكية ثابتة دائمة فيها، معلنة كانت أو مخفية.
كما أن أمريكا لن تترك أفغانستان للمجاهدين بدون زرعٍ لعملائها في كل مكان وكل ناحية، حتى في قلب المجاهدين أنفسهم، لتبقى مؤثرة في المشهد الأفغاني، وموجهة له عن بعد، بدون الكلفة الباهظة من جنودها وأموالها.
من الممكن أن تكون خطة أمريكا أن تستخدم أفغانستان لاستنزاف الصينيين والروس، وخصوصا الصينيين، فأفغانستان على حدود الصين مباشرة، والصين دولة تضطهد المسلمين التركستان اضطهادا كبيرا، والمجاهدون الأفغان ستظل تدفعهم حميّتهم الإسلامية الجهادية لمزيد من الجهاد ومزيد من إيجاد العدو الكافر الذي تجب مدافعته.
ومن الممكن أن تعمل أمريكا على الإيقاع بين المجاهدين الأفغان أنفسهم، حتى تبدأ الحرب الأهلية بينهم كما حدث قبل ذلك بعد انتصارهم على العدو الروسي.
أفغانستان تستعصي على الاحتلال الخارجي، لطبيعتها الجغرافية، ولبأس وتضحية مجاهديها.
لكنها لا تستعصي على زرع الخونة والعملاء، وإحداث الشقاق والتعادي بين فاصائلها الجهادية المختلفة.
في أفغانستان حركة طالبان التي تسيطر اليوم على أغلب الأرض الأفغانية، وفيها كذلك قادةُ جهادٍ تاريخيون قُدامى، وفيها فصائل وتوجهات أخرى، وفيها فرع لتنظيم الدولة...أكبر تنظيم مخترق في تاريخ التنظيمات الجهادية والإسلامية.
وهنا تكون اللعبة الأمريكية..... لماذا يبقى الأمريكان في أفغانستان ليدفعوا مزيدا من الأثمان الباهظة من حياة جنودهم وأموالهم، في حين أنهم يستطيعون أن يبلغوا كل ما يريدونه بالإيقاع بين الأفغان أنفسهم، لتكون حربا أهلية جديدة كما كانت سابقتها بعد الاحتلال الروسي.
المجاهدون الأفغان لا تنقصهم الحمية ولا البأس، ولا ينقصهم الإخلاص ولا التجرد، وإنما تنقصهم الحكمة والأناة، وينقصهم الاستعصاء على الاختراق، والتعالي على الخلاف والشقاق بعد الانتصار ودحر الأعداء.
المجاهدون الأفغان لا تنقصهم الحمية ولا البأس، ولا ينقصهم الإخلاص ولا التجرد، وإنما تنقصهم الحكمة والأناة، وينقصهم الاستعصاء على الاختراق، والتعالي على الخلاف والشقاق بعد الانتصار ودحر الأعداء
وفي تركيبة المجاهدين الأفغان شيء من الغِلظة السلفية الظاهرية، التي لا تعتبر بالمقاصد إلى حد كبير، ولا تُعمل العقل في المآلات والمصائر، فتؤخر ما حقه التأخير لتقدم ما واجبه التقديم.
الخوف على الأفغان يبدأ من اليوم، ولم يكن ثمة خوف عليهم من قبل، فالصورة كانت واضحةً ناصعةَ البياض، وكان عنونها (جهادٌ مقدسٌ ضد عدو محتل أجنبي وعملائه الخونة).
أما من اليوم، فستبدأ الصورة البيضاء الواضحة في الغموض والتلطخ، بفعل الخونة والعملاء المزروعين بين المجاهدين أنفسهم، وبفعل قلة العلم والفهم والحكمة والأناة التي نخشى أن تكون جميعها متوفرة في المجاهدين هناك بشكل كبير وتاريخي.
فرحتنا بالانتصار الأفغاني فرحة لا مثيل لها، وخوفنا مما سيكون خوف لا مثيل له، فله ما يبرره من قراءة المشهد التاريخي لما حدث هناك من قبل، ولقراءة المشهد التاريخي لما يحدث لنا غالبا نحن المسلمين، إذ لا يقدر علينا عدو من غيرنا، ولا نقدر بعدها نحن على أنفسنا، ويكون بأسنا بيننا من بعد هو البأس الأكبر.