نؤمن جميعا لا محالة بأننا عبيد لله عز وجل وأن عبادته سبحانه وحده وضبط سير مجريات حياتنا وأدوارنا في الحياة على وفق مراده سبحانه، هو واجب لا خيار لنا على الحقيقة في مخالفته وإلا لخرجنا من دائرة العبودية الحقة للخالق الذي له الأمر كله عز وجل.
وهناك أمور عامة جوهرية يشترك الجميع فيها تحت رداء العبودية لله تعالى من واجبات أساسية وركائز ضرورية تشمل توحيده سبحانه وإخلاص الوجه له وإفراده بالعبادة بمختلف صورها وأنواعها. وهناك واجبات خاصة منوطة بكل فرد على حدة بحسب طبيعة دوره في الحياة ومقدار ما يحمل على عاتقه من مسؤليات وواجبات تجاه نفسه أولا ثم من يتحمل أمانة تجاههم ثانية، ونخص بالذكر هنا الأم، صاحبة أعظم رسالة وأجل دور وأخطر تأثير وأعمقه. إنها تلك الإنسانة التي اصطفاها الله لدور مؤثر خطير وأودع فيها من المواهب والملكات والقدرات ما يفوق حمل الجبال الراسيات وأفرد لذكرها وذكر أدوارها في كتابه العزيز مواضع عديدة وأولاها بمزيد عناية وخصوصية وذلك لدورها الجبار الذي لا يقدر على أدائه ولا القيام بحقه أحد غيرها.
الأم هي الصانعة التي تصنع العظماء وتنشئ الأجيال، هي المحضن الأول والمنشأ الأصيل، هي التي تغرس في كيان النشء الصغير معان عظيمة تؤهلهم بعد توفيق الله تعالى أن يشبوا صالحين مصلحين. هي التي تملك بيدها نبعا صافيا تقدر بمعونة الله أن تصبه صبا في قلوب أبنائها ثم ترويه بالتعهد وحسن المتابعة والصبر الجميل فيثمر صلابة نفسية في تلك النفوس الغضة القابلة للتشكل والتشرب من أي معين يصب فيها.
هي الوحيدة التي تملك بيدها المعين الصافي لنور الوحي المبين ومعانيه الرائقة من الإخلاص وحب الخالق وحب نبيه وتعاليمه فتسقيه لهم صباح مساء مخلوطا بعبير الحنان والرفق وممتزجا بمعايشاتهم جميعا معا ورؤيتهم لها بذاتها قدوة ومثالا لتشرب تلك المعاني وتمثلها واقعا حياتيا يوميا فيثمر ذلك في نفوسهم رسوخا متينا لمعاني الإيمان الخالص بجميع شعبه ومجاهدة بحب في أدائها.
الأم هي التي تملك الصدر الواسع والنفس المحبة والجهد اللانهائي للصبر على متابعة الصغار والعناية بهم وتوجيههم بحب ورعاية وتؤدة إلى تعلم كل ما ينفع من العلوم والمعارف النافعة، كل بحسب قدراته وملكاته.
الأم هي التي تتفتح العيون الصغيرة كل صباح على محياها الباسم فتفتح في قلوبهم نوافذ الأمل والأمان. هي التي يشب في أحضانها الصبي ويتشرب من دفء مشاعرها فتعلمه الحنان والعطف على الأنثى فيشب رجلا بحق يعلم أن من رجولته رفقه بذويه من الإناث زوجا وبنتا وأختا.
هي من توقظهم من منامهم ليلبوا نداء الفجر وليعلموا علم اليقين أن الله أكبر وأجل. هي من تقدم الاستجابة لوقت الصلاة والنداء على أي مهمة أخرى فترسخ في أذهانهم تعظيم حق الله تعالى وتقديمه على غيره مخبرة إياهم بلسان الحال والمقال أن الله هو الذي يدبر الأمور وييسر جريانها وأنهم لما ينقطعوا عن شأنهم المنشغلين به أيا كان لأجل حلول وقت الفريضة فإنهم إنما ينشغلون في الحقيقة بمسبب هذا الشأن وميسره وهو الذي يملك أمرهم وحركتهم وجوارحهم.
هي من يلهج لسانها بذكر الله على كل حال, فتهرع إلى "لا حول ولا قوة إلا بالله" وقت الضعف وإلى "قدر الله وما شاء فعل" وقت فوات مطلوب وإلى "إنا لله وإنا إليه راجعون" وقت المصيبة والفقد، هان الخطب أم عظم وإلى حمد الله وشكره عند كل أكلة وشربة ولبسة. إلى الامتنان إلى الله تعالى ونسبة الفضل إليه والفرح بعطائه عند كل حال يتقلبون معا فيه وهكذا في رحلة مستمرة لا تنقطع من تذكر وجود الخالق سبحانه واستشعار عطائه والأدب مع قدره وقضائه. كل هذا يتجذر داخل أعماق فطرهم وضمائرهم تجذرا يستعصي على النسيان.
هي من ترسخ لديهم حتمية تعلم دين الله تعالى والدراية بجزئياته ليتكون لديهم تصورا سليما يستقيم به سيرهم في الحياة ويحيون به على منهج الله ووفق ما يرضيه وأول ذلك تعلم كتاب الله فتربط قلوبهم بنور الوحي وتكرر عليهم صباح مساء أنه حبل الله المتين الذي لن تستقيم حياتهم إلا بالتمسك به وتملأ مسامعهم بحديث الحب عن كلام الله تعالى وسيرة نبيه وصحابته وصور تضحياتهم وبسالتهم وكيف تغيرت قلوبهم لما خالط بشاشتها نور الوحي وحب النبي عليه أفضل الصلاة والسلام فتنطبع تلك المعاني في أذهانهم ويتشربون تلك الصور من البسالة والرجولة والفداء فيحيون ذوي همم عالية ونفوس كبيرة معتزة بدينها على أرضية راسخة من الثقة والصلابة النفسية التي تحميهم من ضغوطات الأقران ورفقاء السوء
هي من تقرع سمعه في كل مناسبة بأن ثمرة العلم هي الأدب وأن علما يحصله بلا أثر باد على خلقه وقلبه وسمته فلا خير فيه.
هي من تحسن استغلال كل لحظة وحركة في غرس معنى وتأصيل قيمة وتوضيح مفهوم, تستغل لحظات الفرح في إحسان العبودية فيها بالتمتع بنعمة الله وامتثال شكره، ولحظات الألم بحسن استقبال الأقدار وفهم رسائل الله تعالى لنا فيها من قصده وحده باللجوء والحمد والاسترجاع والتصبر بالأقل حالا وأسوأ ابتلاء، وكل زيارة للأهل في تأصيل قيمة صلة الرحم ووجوب البر وآداب الزيارة وحقوق الصغير والكبير، وكل إجابة لسائل في تأمل اختلاف أحوال الناس وارتفاع درجاتهم بعضهم على بعض، كل معاملة مع عامل بسيط ممن يؤدون لنا الخدمات في أدب الحديث وإظهار الرفق والاحترام وحسن اختيار الألفاظ، وكل وعكة يمر بها أحد أفراد الأسرة في التضرع إلى الله الشافي وبخدمة الصحيح للمريض والدعاء له ومراعاته وتأمل نعمة الصحة وحال العافية والسقم، في مرض الأم بتأمل عظيم دورها وأهمية رد جميل البذل وواجب البر وتحمل المسؤولية وتقبل تغير الحال وفقد بعض الكماليات بسبب تعطل دورها الكبير فيتعلمون المرونة عند تغير الأحوال ويكتسبون جلد القدرة على التكيف وتحمل الصعاب حتى تعود الأمور إلى مجرياتها.
هذه والله ليست صورة مثالية من وحي الخيال وإنما مشهدا لحياة سوية بإمكان كل منا العيش بها بصورته الخاصة وطريقته المميزة. وهي بصورتها العامة تلك تمثل البيئة الخصبة والحالة الحقيقية التي يتحقق بها المقصود الأمثل لتكوين الأسرة المسلمة والتي تنتج بفضل الله أفرادا هم صفوة بحق يمثل كل فرد منهم جيلا بأكمله ويصدق عليهم وصف الإسلام وعزة التمكين والتأييد والنصرة بحق
منتج عظيم وأثر قل نظيره ذلك الذي يكون بسبب جودة وإحسان أداء دور محوري كما أراد الله له أن يكون وهو دور الأمومة.
لا ينكر عاقل وجود كثير من المعوقات والتحديات الواقعية التي تجعل من تلك الحالة عملا ليس بالهين من تخاذل الشريك أو عدم وجوده من الأصل ومن ضغوطات الأقران وكثرة الملهيات والمفسدات وعوامل الهدم التي لا تحصى ولكن تبقى المسؤلية الفردية أمانة لن يحملها إلا صاحبها ولن يسأل غيره عن بذله في سبيل أدائها والقيام بها فليس للإنسان إلا ما سعى ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ويبقى السعي والمكابدة والهم الحقيقي في تحصيل مقومات هذا الدور العظيم والتحلي بمعايير جودة أدائه والاجتهاد في فهم التحديات المحيطة وتحصيل الطرق التربوية للتعامل معها وقبل ذلك وكله الاستعانة الخالصة التامة والتضرع الدائم بالتوفيق والإعانة والهداية وجميل وطيب الثمر.