تبدأ سورة "ق" بوصف القرآن الكريم بأنه مجيد قال تعالى: "ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ".
وصفة المجيد تجمع بين التشريف والتعظيم لهذا الكتاب الكريم، ولعلّ هذا الوصف في مستهلّ السورة يناسب موضوع السورة الذي تتحدث عنه ألا وهو الحديث عن اليوم الآخرو قدرة الله على البعث بعد الموت والذي له سبحانه التعظيم كله، والملك كله في ذلك اليوم:" لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ" غافر الآية 16.
والسورة في موضوعها الرئيسي هذا تقوم على محورين رئيسيين: وهما صفتان من صفات الله أولاها صفة جمال وهي علم الله والأخرى صفة جلال وهي قدرة الله، والتربية بهذين الاسمين من أسماء الله " العليم والقادر" يؤصّلان في نفس المؤمن الشعور برقابة الله ومعيّته، فيوقن أن الله يعلم سرّه ونجواه ويطّلع على كل ما يصدر عنه من قولٍ أوفعل، كما قال تعالى في هذه السورة:" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ "
ثم يضع في حسابه أن كل ذلك مكتوب عليه مآخذ به:" إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ".
ومن ثم يستشعر قدرة الله على البعث، ويستحضر مشاهد الآخرة: " وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ".
عندها تثمر هذه التربية خشية الله في السر والعلن، وتدفع المؤمن أن يستعد للقاء الله في ذلك اليوم كي يجد ما يسره لا ما يسوؤه، فينقّي سريرته، ويصلح عمله، ويرجوالله أن يكون من الفائزين:" وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ".
وهو يخاف أن يكون من الفريق الآخر فيكون من الخاسرين:" أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ".
وبين الخوف والرجاء، يمضي المؤمن في هذه الحياة، يعمل الصالحات ويجتنب الموبقات، يقصد الخير لنفسه وغيره محتسبا ذلك كله عند الله تعالى، حتى يلقاه وهو عنه راض.
وتسوق السورة أربعة أدلة على قدرة الله على البعث، وهي أدلة عقلية، يُخاطب بها كل من كفر باليوم الأخر وجحد قدرة الله على البعث:
فأما الدليل الأول: " قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ " فالله يعلم أين تذهب ذرات أجسامهم بعد أن تتحلل وتتفرق في الأرض، وقادر أن يجمعها ويعيدها كما كانت عند البعث، ولذلك قال مباشرة في الآية بعدها:" بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ"
فوصف سبحانه وتعالى أن البعث أنه حق، وأنه واقع لا محالة.
وأما الدليل الثاني:" وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ".
فكما تكون الأرض ميتة، فيحييها الله بالمطر وتستحيل جنة خضراء، فهو سبحانه قادر أن يحييكم بعد مواتكم كما أحيا الأرض بعد موتها ولذلك جاء تذليل الآية " كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ".
واما الدليل الثالث:" أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ " فالله الذي خلق الخلق أول مرة قادر أن يعيد خلقه مرة أخرى.
وأما الدليل الرابع:" وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ".
فلا شك أن خلق السماوات والأرض أكبر وأعظم من خلق الناس، ومن يقدر على الأصعب يقدر على الأسهل، وكلٌ على الله يسير.
وبعد سرد هذه الأدلة وتفنيدها، يقرر الله النتيجة الحتمية والمصير المكتوب الذي ستصير إليه الخلائق:" إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ. يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ".
ورب سائل يسأل، ما سبب ذكر الأقوام السابقة في وسط سياق الحديث عن اليوم الأخر؟
قال تعالى:" كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ".
والجواب أن الأقوام السابقة كذبت رسلها الذين جاءوها بدعوة الإيمان بالله واليوم الآخر، كما يكذب كفارقريش، أو كل جاحد الآن، وكأن في الآية تهديد باطن أن إذا بقيتم على تكذيبكم بالبعث كما كذّبوا فسيصيبكم ما أصابهم من العذاب والهلاك:" فَحَقَّ وَعِيدِ ".
وأما ختام السورة، فهو يذكر القلب، ويتوجه له بالخطاب، ذلك أن سورة ق ما هي إلا تذكرة وموعظة لا ينتفع بها، إلا صاحب القلب الحي:" إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ".
وانه لا ينجو في ذلك اليوم عندما يجمع الله الناس بعد الموت إلا صاحب القلب المنيب الذي أناب إلى ربه في الدنيا قبل أن ينوب جسده إليه في الأخرة:" هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ *مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ".
وهكذا فهذه القلوب لا سلطان لأحد عليها إلا الله، ولن يتعظ بالقرآن وبما حوى من الآيات والمواعظ إلا من كان يرجو الله واليوم الأخر، فكانت آخر آية في السورة:" نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ".