تُعتَبر مشكلة انصراف الكثير من شرائح الجمهور العام والمجتمعات المُستَهدَفة، من بين أبرز المشكلات التي تواجه العاملين في مساحات العمل الإسلامي المختلفة، وبالذات في المجال الدعوي.
ويعود ذلك إلى العديد من الأسباب، من بينها ما سبق أنْ ناقشناه في مواضِع سابقة من الحديث، مثل عدم مصداقية أصحاب الخطاب الدعوي أنفسهم، بسبب انحيازات سياسية، وتوظيفهم للعمل الدعوي من هذا المنظور، أو لجهة عدم تطبيقهم ما يدعون إليه الناس على أنفسهم، ولاسيما فيما يتعلق بخطاب الزهد والتقشُّف.
إلا أنَّ قسمًا كبيرًا من الأسباب يعود إلى أمرٍ أساسي، يُعتَبر جذرًا لأفرع كثيرةٍ من الأسباب، وهو غياب المفاهيم الصحيحة المتعلقة بالجانب العلمي من أساليب الخطاب والعمل في المجال الدعوي.
وهو ما يطرح بدايةً، قضية رئيسية ربما هي الشاغل الأكبر لخطاب عوام المسلمين، بعد ما أكده دعاة كان لهم وزنهم وتأثيرهم، مثل الشيخ محمد حسين يعقوب والشيخ محمد حسَّان مؤخرًا، مِن أنَّهم لم يحصلوا على العلوم الشرعية اللازمة لتأسيسهم فيما يتعلق بإصدار الفتاوى والأحكام الشرعية.
وهنا ثَمَّة نقطةٍ واجبةِ الإيضاح، وهي أنَّ غياب التحصيل العلمي الشرعي، لا يطعن في الشخص بحدِّ ذاته، فليس بخطأٍ أنْ يكون المرء أُمِّيًّا حتى، ولكن الخطأ هو التصدِّي لأمورٍ لا علم لها بها.
والشيخ محمد حسَّان بالذات، نموذج لذلك، فهو ليس بالأُمِّي، أو الحاصل على مؤهل ضعيف؛ حيث هو حاصلٌ على درجة البكالوريوس من كلية الإعلام، جامعة القاهرة، وهي إحدى كُلِّيَّات القمة في مصر. القصة فقط من جانب منتقديه، وكثيرٍ من عوام الناس الذين عقَّبوا على شهادته أمام المحكمة مؤخرًا، هي أنَّه ليس مؤهلاً للحديث الإفتائي أو الشرعي وفق مفهوم التأهيل العلمي الصحيح.
وهي مشكلةٌ ليست بالهيِّنَةِ؛ حتى لو خَلُصَت النوايا، وحسُنَت المرامي، وهو ما لا حكم لنا عليه؛ لأنَّه من اختصاص اللهِ عزَّ وجلَّ، فالقضية هنا متعلِّقة بما إذا كان العاملون في الحقل الدعوي، مؤهلون لأمرٍ في غاية الأهمية، وهو دقة إصدار الحكم الشرعي على حالةٍ بعينها.
ويبدأ ذلك من تحرير المفاهيم، وصولاً إلى فهم المسألة المعروضة وصحة توصيفها، وبالتالي، تسكينها في المجال الصحيح للأحكام الشرعية الخاصة بها.
فمن أهم قواعد وأصول إصدار الحكم الشرعي في مسألةٍ ما، وبرغم ذلك هي غائبةٌ عن غالب المادة الدعوية والإفتائية التجارية الطابع لو صحَّ التعبير مما نطالِع على القنوات الفضائية والإنترنت بمساقاته المختلفة؛ قاعدة تحرير المفاهيم التي تتضمنها المسألة، وتعريفها تعريفًا واضحًا.
من أهم قواعد وأصول إصدار الحكم الشرعي في مسألةٍ ما، وبرغم ذلك هي غائبةٌ عن غالب المادة الدعوية والإفتائية هي قاعدة تحرير المفاهيم التي تتضمنها المسألة، وتعريفها تعريفًا واضحًا
وبداهةً؛ فهذا الأمر يجب أنْ يسبق عملية إصدار الحكم الشرعي نفسه، والذي يتضمن كذلك، ضرورة تحديد المسألة المراد مناقشتها، من أجل تسكينها – كما تقدَّم -بالشكلِ السليم في منظومة الأحكام الشرعية التي تتعلَّق بها.
فطيلة عقودٍ مضت؛ كانت المشكلة الأساسية التي يقع فيها الكثير من عوام المنتسبين إلى العمل الدعوي، وخصوصًا ممَّن دخلوا هذا الحقل من باب الجماعات الدينية التي لم تدقق في هذه المسائل، هو إطلاق الأحكام الشرعية والنصوص القرآنية وتوصيفاتها، بشكل خاطئٍ على حالاتٍ لا تتعلق بها.
وهذه القضية على أكبر قدرٍ من الخطورة، وليست من نافل القول؛ حيث فيها قضية تكفير الآخر المسلم، من بين نواتجها، وكذلك نجد الكثير من الجرائم التي تقع بسبب سوء التوصيف وعدم تحرير المفاهيم، ومنها جرائم الشرف، وعلى أبسط تقدير – كما سوف نرى – عدم تحرير المفاهيم بشكل صحيح، يقود إلى تنفير فئة أو فئات معينة من الناس، من الخطاب الدعوة والإفتائي.
وهذه القضية – بالفعل – نجد فيها عجبًا، بالذات في النواحي العقدية والأخلاقية التي الأمور فيها، في مجتمعاتنا التي لا تزال تغلب عليها روح البداوة، ما يُطلَق عليه في مصر "قطع رقاب".
فنجد أنَّه – مثلاً – عند الحديث عن الحجاب الشرعي، ووجوبه على المسلمة البالغة، يطرح البعض مصطلح "التبرُّج" في وصف غير المحجبات، من دون تحرير مفهوم "التبرُّج" لديهم، وبالتالي يستعملونه بشكل خاطئٍ يقود في النهاية إلى انصراف فتيات الجيل الجديد، والفئة التي تشبَّعت بأفكار التحرير، ومذهب غُلاة "الفيمينيست" في مجتمعاتنا المعاصِرة.
فـ"التبرُّج"، هو سُبَّةٌ قبيحةٌ للغاية، وتُشبه أنْ تقدح في عرض الإنسان.
ودليلنا في ذلك، القرآن الكريم. فالقرآن الكريم عندما استعمل هذا المصطلح، مثل آية "الأحزاب"، التي يقول اللهُ تعالى فيها مخاطبًا نساءَ النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم": "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)"؛ كان يشير إلى فئةٍ كانت من النساء كانت موجودةً في مجتمعات شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، وهي فئة صاحبات الرايات الحُمر، العاملات في مجال ما نُطلِقُ عليه الدعارة الآن.
فكانت المُتبرِّجَة، عندما تمشي؛ تمشي شبه عارية الصدر والجسد، وبصورة وهيئة مُعيَّنةٍ؛ لكي يعلم أهل مجتمعات الجاهلية أنها "عاهرة" تسوِّق لنفسها، لأنَّه وقتها، كانت القواعد تفرض للتعريف بالهوية؛ أزياء معينة على النساء؛ فالحُرَّة كان لها ملبسٌ، والأَمَة كان لها ملبسٌ، وصاحبات الرايات الحُمر، كُنَّ لهنَّ نمطٌ بعينه من الملابس، وهكذا.
لكن دعاتنا في الغالب ما يستعملون هذا المصطلح من دون حذرٍ، وبتعميم يمنعه الشرع نفسه؛ حيث ليست كُلَّ غير مُحجَّبَة؛ متبرِّجةً طبعًا، فهناك كثيرٌ مِن غير المُحَجَّبات، محتشمات قدر المستطاع، وربما احتشامهنّ أفضل من بعض أو كثيرٍ من المُحَجَّبات في باقي ملبسهنّ، وهناك الكثير منهنَّ – غير المُحَجَّبات – على خُلُق كبير، ولا يضعنَ حتى مستحضرات تجميل أو يستعملنَ أدوات الزينة المتعارف عليها حاليًا.
لكننا نجد أنَّ غيرَ المُحَجَّبة، مُتبرِّجَةٌ في خطاب ما يمكن أنْ نطلق عليه عوام الدعاة!
وفي هذا، نجد خطأ مهمًّا آخر في العمل الدعوي، وهي أنَّنا لا نوجِّه الخطاب الدعوي لأنفسنا كما نوجهه للآخرين.
فبنفس منطق الرد على بعض الآراء الخاطئة التي تقول بأنَّ الحجاب ليس معيارًا للقرب من اللهِ تعالى؛ حيث الإيمان لابد معه من العمل والالتزام بتعاليم الدين؛ فإنَّه أيضًا يجب أنْ يتم غرس ثقافة الحجاب الصحيح لدى بناتنا وسيداتنا بأنّ الحجاب كذلك، ليس غطاء رأس فقط، وإنما هو منظومة سلوك وهيئة، من دونها؛ لا تكون المحجبة، محجبةً فعلاً.
يجب أنْ يتم غرس ثقافة الحجاب الصحيح لدى بناتنا وسيداتنا بأنّ الحجاب كذلك، ليس غطاء رأس فقط، وإنما هو منظومة سلوك وهيئة، من دونها؛ لا تكون المحجبة، محجبةً فعلاً
وهذا هو ما أساء للحجاب أصلاً، وأعطى تيارات كثيرة فرصة الهجوم عليه؛ أنه عند كثيرات؛ مجرد "غطاء رأس"؛ لا منظومة أخلاق وسلوك.
كذلك ينطبق هذا الأمر على أمرٍ كثيرًا ما قاد في بعض المجتمعات إلى جرائم شرف، وهو عدم التمييز بين العاطفة وبين العلاقات غير الشرعية بين الرجل والمرأة مما يستوجب إقامة الحدود.
فالعاطفة غير مُجَرَّمةٍ في الشرع، والتجريم مِن المعروف أنَّه أقوى من التحريم؛ حيث يشمل التجريم عقوبةً ما بجانب حكم أنه أمرٌ حرامٌ، فالأصل في الخمر أنَّها حرام، ولكن تمَّ تحديد عقوبتها في عهد عمر بن الخطاب (رضي اللهُ عنه) -على رأي بعض الفقهاء- بإقرار عقوبة مثل حد القذف، بناء على رأي عليٍّ بن أبي طالب (رضي اللهُ عنه).
ولكن العاطفة لا يملك الإنسان لنفسه عليها سلطانًا، كما قال الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" نفسه، عندما بيّن من أنَّه لا يملك لنفسه على نفسه سلطانًا فيما قضت به عاطفة القلب إزاء كُلِّ زوجةٍ من الزوجات.
وبالتالي؛ فهي لا عقوبة ولا تجريم فيها، ولكن غالب الإجابات التي نجدها على صفحات مواقع الكثير من دعاتنا بل وهيئات دعوية وإفتائية رسمية، تضع إجابات على أسئلةٍ متعلقةٍ بكيف يتصرف الشخص في حال كان يحبُّ امرأةً؛ تقرِن العاطفة بالزنا، والعياذ بالله.
ولكن عدم التوصيف الصحيح وتجاهل تحرير المفاهيم قبل إصدار حكمٍ شرعيٍّ ما؛ كل ذلك أسس لصورةٍ ذهنيةٍ خاطئةٍ عن العاطفة الإنسانية، بحيث تتحول في بعض المجتمعات إلى جرائم شرف، حتى لو لم ينتج عنها الخطيئة.
وذلك يحدث بالرغم من أنَّ القرآن الكريم ميَّز بين الحالَيْن في قصة امرأة العزيز مع نبي اللهِ يوسف "عليه السلام"، فالقرآن الكريم نقل عنها وفق ما أوضحه المفسرون بأنَّها كانت تقصد زوجها في هذه الآية: "ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ" [سُورَة "يُوسُف" – من الآية (52)]، فهي هنا تنفي عن نفسها أمام زوجها، تهمة الخيانة؛ أي أنَّها لم تقع في الزِّنا، بسبب استعصام يوسف "عليه السلام"، لكنَّها لم تنفِ عن نفسها في ذات الآن، تهمة أنَّها كانت تحبُّه، بل واعترفت بها.
وهذا الأمر في الواقع – تحرير المفاهيم وتوصيف الحالة – لا يخص "المتطرفين" أو الدعاة غير المُؤهَّلين، وإنما كذلك، يخص المنفلتين وأصحاب الهوى؛ حيث يقوم بعضهم بنسبِ بعض الأمور إلى مسمَّياتٍ خاطئةٍ، من أجل تحليل الحرام.
فالإسلام لا يحرِّم الفنَّ، ولكن أيَّ فنٍّ؟!.. تعريف الفن في الإسلام، والذي لا تحرِّمه الشريعة، مختلفٌ عمَّا تقدمه راقصات البطن وهزِّ الوسط بالتأكيد، لكن البعض يضع هذه الأشياء ضمن "الفنون"، وبالتالي؛ فهي – في رأيهم - إما لا يحرمها الإسلام – حاشا لله ولشريعته ذلك – أو أنَّ مَن يحرِّمونها؛ هم شرذمة من المتطرفين!
الخلاصة؛ أنَّ تحديد الأمور ضرورة مهمة للغاية، سواء تحرير المفاهيم، أو فهم الحالة التي نحن بصددها، وهل هي ينطبق عليها هذا الحكم الشرعي أو ذاك.
ولكن، للأسف نقول؛ إنَّ غالب دُعاتنا للأسف، لا يعلمون تعريف "الحكم الشرعي عند الأصوليين (علماء أصول الفقه)؛ وهو: "خطابُ اللهِ تعالى، المتعلق بأحكام المُكَلَّفين، اقتضاءً أو تخييرًا أو وضعًا"، ويسقطون تمامًا أنَّ في شريعتنا ما يُعرَف بـ"الأمر المباح" (تخييرًا).
وهو وجهٌ آخر من تبعات غياب العلم عند الداعية والمتصدِّين للإفتاء، ولكن لهذا موضِعًا آخر مِن الحديث.. هدانا الله تعالى أجمعين.