فلسطين بلد الأساطير منذ القدم:
فلسطين هي أرض الأنبياء منذ القدم، وقصص الأنبياء الأقدمين قصص مليئة بالأساطير، إذا قصدنا بالأساطير هنا القصص البالغة في الغرابة، والمليئة بالأحداث التي لا تتخيلها العقول، والتي تكون على غير قواعد الواقع والمنطق والممكن.
وغالبًا ما يُقصد بمصطلح الأساطير إذا أطلق في غير سياقنا هذا: القصة غير الحقيقية التي يرويها الناس بغرابتها ولا معقوليتها، والتي لم تحدث على أرض الواقع، لكنّ أساطير فلسطين، أساطير تحدث وتكون، منذ القدم وإلى الآن.
وها هي فلسطين، بعد أن انتهت أساطير قصص الأنبياء عليها، ها هي تستمر في نسج أساطيرها بيد أبنائها، أبناء وأحفاد الأنبياء.
الذي حدث في سجن جلبوع هو أسطورة حقيقية معاصرة، صاغتها الأفلام السينيمائية العالمية من قبل في إطار الأسطورة السينيمائية الخيالية، فإذا بها تصبح يوما ما حقيقة واقعة، في أرض فلسطين، أرض الأساطير الحقيقية.
لقد شاهدت يومًا الفيلم الأمريكي (الخلاص من شاوشانك) الذي يعده النقاد ثاني أفضل الأفلام السينمائية في التاريخ، وهو يحكي قصة هروب سجين من سجنٍ فائق الحراسة، باستخدام أدوات بسيطة جدا، أخذ يحفر بها في حائط السجن وأرضيته سنين طويلة، الفيلم مبهر جدًا، إذ أنه يحكي أسطورة لا تتخيلها العقول!
وما كنا ندري، أن هذه الأسطور ستكون يومًا حقيقة، هناك في فلسطين.
الحرية التي يضحي الإنسان بحياته لأجلها:
عندما خرج السجناء بهذه الطريقة الأسطورية، كانوا يعرفون أنهم يُعرّضون حياتهم للخطر الداهم؛ فمعروف ما للأجهزة الأمنية والاستخبارية الصهيونية من قوة وسيطرة وإمكانات، وإمكانية العثور على هؤلاء الأسرى الفارين من قِبل هذه الأجهزة كانت هي الإمكانية الأكثر احتمالية، واحتمالية تصفيتهم حين العثور عليهم كانت هي الاحتمالية الأكثر كذلك، حتى يكون في ذلك رادع لكل السجناء الآخرين، لكي لا يفكروا في ذات الأمر، ويحاولوا تكراره، ولكن برغم كل ذلك، أقدم الأسرى على ما أقدموا عليه طلبًا للحرية.
"لئن أموت باحثًا عن الحرية خيرٌ لي من أن أعيش في العبودية أو منتظرا لها" تلك جملة قالها يوما ما، واحدٌ ما، لإخوانه المرافقين له، عندما حاصرتهم قوات الانقلاب، بعدما فضت اعتصامهم السلمي، الذي كانوا يهتفون فيه ضد الانقلاب والعسكرية والديكتاتورية في بلد عربي مجاور.
يجب أن ندرك حقيقة الأسر وحال الأسرى:
لا يعرف الشيء إلا من عاشه وذاقه، وتلك الحادثة التي حدثت، تشير لنا بماهية الأسر، وكيف هو حال الأسرى، أولئك الذين يغامرون بحياتهم من أجل حريتهم، يؤكدون لنا أن أَسْرهم أشد عليهم من الموت، أسرى مسجونون في سجون الاحتلال ومحكومون بمئات السنوات، لن يخرجوا من سجونهم إلا موتى، كيف تكون حياة هؤلاء؟!
عندما نشاهد صور عميدٍ من عمداء الأسرى الفلسطينيين (نائل البرغوثي) الذي قضى أربعين عامًا في الأسر، وقد وصل للستين من عمره، وكان قد سجن في العشرين، عندما نرى صورته، نرى الحزن والظلم واليأس في وجهه، فقد سُجن شابًا صغيرًا، لم يتزوج ولم ينجب، وضاعت حياته كلها في سجون الاحتلال، أية حياة هذه؟! إن الفرار بحثًا عن الحرية حتى ولو أدى للموت، خير من تلك الحياة.
وغزة سجن كبير:
وإخواننا الغزيون مسجونون في غزة في سجنهم الكبير، سجنٌ كأي سجن، غير أنه كبير بعض الشيء؛ لأن معنى السجن: أن تُحدد إقامة الإنسان في مكان، فلا يستطيع أن يخرج منه، ولا أن يَدخل أحدٌ عليه فيه، وذلك مهما كان هذا المكان متسعًا، وتلك هي غزة بالضبط.
إخواننا مسجونون هناك، لا يخرجون منها، ولا أحد يَدخل عليهم فيها، ولذلك، فإخواننا في غزة يعيشون عيشة الأسرى، ويشعرون بذات الشعور، ويتوقون لذات الحرية، وسيظلون كذلك، يحاولون كسر القيود والأسوار، حتى يتحرروا، حتى ولو أودى ذلك بحياتهم، فموتهم في سبيل طلب الحرية خير لهم من أن يستسلموا للعبودية.
ثَقَب الأسرى الفارون قلب الاحتلال عندما ثقبوا سجنه:
دولة الاحتلال تعيش على أسطورتها التي صنعتها وصنعها لها إعلامها وإعلام حلفائها، أسطورة الدولة القوية التي لا تُهزم، ولا يغيب عن أجهزتها الأمنية والمخابراتية شيء، وها هي أسطورتها تتحطم يوما بعد يوم، فبعد أن هُزمت في غزة وفي جنوب لبنان، ها هي تتحطم صورة أجهزتها، بأبسط الأدوات، وتحت أشد الحراسات.
دولة الاحتلال تتهاوى، ونهايتها قريبة جدًا، ويبدو أن البشارات التي بشرت بنهايتها في النصف الأول من هذا القرن سَتَصْدقُ، ويقيننا الأكبر في ما هو أكبر من هذه البشارات، في وعد الله تعالى في آياته وقرآنه العظيم: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8].
تقصيرنا في حق الأسرى الفارين:
لقد صرنا نحن (شعوب العرب) أجبن وأخوف مما كنا، بعد أن انقضّتْ علينا الثورات المضادة لربيعنا العربي انقلابًا وقتلًا وسجنًا وتنكيلًا؛ فما كان حدثٌ ذو بال يحدث من قِبل في أمة الإسلام، إلا وكنا ننتفض تظاهرًا، فيسمع العالم صوتنا، ويعلم قضيتنا، ويخشى صحوتنا، وقد كانت مظاهراتنا توقف في بعض الأحيان أحداثا جساما، وذلك عندما نضغط نحن على حكوماتنا العميلة لإسرائيل وأمريكا والغرب، فتضغط الحكومات على أسيادها، فيضطر الأسياد لإنهاء الحدث أو تخفيف شدته خوفا من الانفجار العربي والإسلامي العام.
حكى البعض يومًا: "أن ضربةً عسكرية أمريكية على العراق، أوقفت يوما ما، بعد أن ضغط الشباب الجامعي المصري على نظامه الحاكم بمظاهراتٍ حاشدة"، أما الآن، فقد بتنا أكثر خوفًا، وعادت أنظمتنا الحاكمة أشد سطوة وعنفًا في مواجهتنا، وأشد عمالة وخيانة من ذي قبل.
لو خرجت مظاهراتنا الحاشدة نصرة لإخواننا الأسرى، في كل مكان، وخصوصًا في فلسطين، وفي الضفة بالأخص، لربما تغيرت الصورة، وخففت إسرائيل من بحثها عنهم، ومررت الأمر مرغمة.
ولكنها (إسرائيل) ترى أنظمةً تزدادُ يومًا بعد يوم خضوعًا واستسلامًا لها، وترى شعوبًا تزداد يومًا بعد يوم خوفًا وجبنًا وسكوتًا، فتبالغ إسرائيل بذلك في جبروتها وسطوتها وشدتها.
موقف المقاومة الإسلامية المشرّف في غزة:
أول ما بدأ العدو الصهيوني في اصطياد إخواننا الأسرى الفارين اثنين بعد اثنين، قلت حينها راجيًا: لو يعلن إخواننا في المقاومة الإسلامية في غزة أن هؤلاء الأسرى الفارين هم على رأس قائمة الأسرى المحريين في صفقة تبادل الأسرى القادمة.
وقد كان، ولم يخيّب إخواننا في المقاومة الإسلامية ظننا فيهم، وأعلنوا ذلك، مع أنه من الممكن أن يكون هذا أكبر معيق في صفقة التبادل؛ لأن إسرائيل لو رضخت لهذا الشرط، فستُحفز بذلك بقية الأسرى على أن يحذو حذو الأسرى الفارين الستة، فإما أن ينجح فرارهم، وإما أن يوضعوا على رأس قوائم صفقات تبادل الأسرى القادمة.